اللوحة: الفنان المصري صلاح عناني
لا أعتقد أنَّه يوجد مثل الشعب المصري في فَشَلِه أنْ يستمتع بالحياة، الحياة فن، وهناك شعوب كثيرة فيمجموعها تُتْقن فن الحياة بدرجات متفاوتة، شعوب غنية وفقيرة، تتذوق وتستطعم الحياة في كل وقت،
فالفقر أو الغِنى ليسا شرط الاستمتاع بالحياة، بل هي التوقعات التي نَنْتظرها من الحياة، فمن يَتوقع ولا يَشعربأنَّ توقعه بين يديه لا يَنال متعة صافية، لا يلتفت إلى المحطَّات التي يمر عليها، وهي كثيرة، بل ينتظر دوماأن يطأ محطة أحلامه وتوقعاته كي يفتح مَسَام الإحساس بالسعادة.
نحن لم نتعلم فن الحياة في بيوتنا أو مدارسنا أو مساجدنا، فقط تعلمنا، الحذر والخوف والظن واصطياد الهم، إذ كيف يشعر بمتعة الحياة:
ـ من يعمل طوال اليوم فلا يجد وقتا إلا للنوم، إنْ كان فقيرا فهو يعمل ليكْفي نَفسه وأولاده، وإنْ كان غنيافهو يعمل ليزيد من أرْصدته في البنوك، الاثنان تستغرقهما وتستهلكهما الحياة، لا بد أن يَقتنع كل منهما أنَّالمتعة الآن وليس فيما بعد؛ مهما كانت الوسائل قليلة أو كثيرة.
الذي يتمتع بالشباب والفتوة ولا يستطيع أو تستطيع الزواج، الولد يَجتهد ليُرضي فطرته ودينه بالزواج،والإمْكانات بعيدة، وطالما لم ينلها أو يقترب منها؛ فلا إحساس بالحياة، لا يسمح بتسَرّب أحاسيس الحياة إلا حين يفوز بنِصفه الثاني، والفتاة تَنْتظر من يطلبها، فهي في إنتظارٍ مُستمر، فلا حياة حتى تأتي تلك اللحظة،هما في برزخ انتظار الحياة، وحياة منغَّصة بالانتظار ليست بحياة.
– الذي هاجر ليعمل بالخارج، تاركا أسرته، وعاش وحيدا يحاول أن يَسد ثَغرة الحاجة المادية؛ بينما يَتْركثغورا في أسرته تُثْقب بغيابه، كيف يحيا وكيف تحيا أسرته؟ إنهم في انتظار لمّ الشَّمْل، ولا طعم للحياةوبينهما آلاف الأميال، فالتمتع بالحياة مؤجَّل، هم أيضا في برزخ، برزخ انتظار ما يظنّون أنَّه بداية التمتّعبالحياة.
ـ الذي بلا عمل أو يعمل في غير تخصصه، فبعد أن أنفق عِقدين من عمره في الدراسة، وكان يظن التعليمقناة طويلة وشاقة ثم بمجرد عبورها يدخل بوابة الحياة، فيُلقَى به في أحضان نِصفه الحلو وفتاة أحلامه،ولكنه يُصدم حين يجد أمامه برزخا وراء برازخ؛ الوظيفة، تكوين البيت، الزواج، كل برزخ منهم كفيل بأنيُستشهد فيه قبل أن يَعبره، والعمر قصير ومُهْدر.
من هو ضحية اشتباك مشؤوم في صراعات الحياة، فوقع في بِئْرٍ بلا قاع، وينتظر الحرية، ولا يشعر ببؤسالوضع المُعَلق بلا حل؛ إلا من وقع في البئر، يعيش في برزخ الانتظار، ليبدأ الحياة، ولا حياة مع الانتظار.
كيف تصفو لهم الحياة؟ شعب مسكين، شعب مفعول به، شعب يعيش في دوائر صغيرة مغلقة، ليتها تُسعده،لكنها دوائر برزخية عنوانها الانتظار، انتظار أنْ يُفتح في الدائرة ثقب يَنفذ منه للتمتع بالحياة، فلا يجد إلادوائر انتظار أخرى تمتلئ بالخيبة والحسرة على ما كان يَظنها حياة، المصري داخل بيضة الديك، ينتظر أنتفقس.
في كتاب «قصة نَفْس» للأديب والمفكر زكي نجيب محمود، يقول لصديقه المكتئب والذي يحمل قتبا فوقظهره؛ يا صاحبي إنَّ الحياة التي تؤرِّق صاحبها هي الحياة المريضة، فأنت لا تشعر بوجود أي جزء منأجزاء جسمك إلا إذا أعتل، إنك لا تشعر بوجود عينيك، و أذنيك أو معدتك أو قلبك إلا إذا أصابتها أو أصابتهالعلّة، أما إذا كانت هذه الاجزاء سليمة فلن تَشعر بمجرد وجودها، فضلا عنْ أنْ تحس الألم من حَملها، إنَّحياتك فيما أرى قد مَرِضت فأحسست بوجودها ثم بِحَملها وثقلها وكأنما هي زائدة أضيفت إليك وليست منكولا أنت منها، ولست أعجب الأن أنْ أرى حياتك المريضة هذه قد بَرزت فوق ظهرك قتبا كبيرا.
في هذا الكتاب صوَّر ذنوب وسيِّئات وهموم الحياة التي هَزمته قد تكوَّمت فوق ظهره في صورة قتب – أي حدبة – كبير يسير به وينام به ويشعر به في كل وقت.
وأنا أتصور أغلب المصريين يسيحون في الأرض وعلى كَتفهم مثل هذا القتب المعنوي الذي يُثقل كاهل كل منهم فيالصورتين السابقتين، المصري المنتظر والمصري الذي يحمل هُموم الحياة فوق ظهره في المنام واليقظة ويعيشمُنَغَّصا متألما.
يُحكَى أنَّ أحباب ومتابعي الشيخ الراحل عبد الحميد كشك تجمهروا عقب الإفراج عنه عام 1982 مطالبين بعودتهللخطابة في مسجده في منطقة العباسية حيث كان يخطب الشيخ هناك لسنوات قبل اعتقاله، وكان التجمهر عقبصلاة الجمعة، وأثناء اندماج الثائرين في الهتاف مطالبين بعودة الشيخ للخطابة، فجأة ظهرت سيارة نقل كبيرةمحمَّلة بالبيض، وقفت على مقربة منهم ونادى مناد: بيض طازج بنصف السعر!
وقف المتظاهرون قليلاً، ثم بدأوا يتسللون ناحية السيارة كي يقتنصوا الفرصة، وهم يقولون في أنفسهم: ما المشكلةأنْ نبتاع البيض ثم نُكمل المظاهرة؟
دقائق قليلة والتف المئات حول السيارة، نَفَذ البيض في أقل من ربع ساعة،
بعدها بدقائق حضرت قوات مكافحة الشَغَب والتي كان من المتوقع أن تَخوض معركة حامية الوَطيس في تفريقالمتظاهرين، ولكن حدث ما هو غير متوقع، فلقد وقف كل متظاهر ينظر للجنود وهم ينزلون من سيارات الشرطة ثمينظر للبيض الذي في يده والذي حصل عليه بسعر (لُقطة)، محاولاً تصور مصير هذا البيض في حالة مواجهة قواتمكافحة الشَغَب !والنتيجة كانت انصراف المتظاهرين بدون صِدام، فالجميع اقتنع أنَّ الوقفات والمظاهرات يمكنتعويضها بكل سهولة، ولكن البيض لن يُعوَّض!
في المجتمع المصري يَحمل كل منا كرتونة بيض تُعيقه عن الالتفات عنها خَشية أن تقع فتَتهشم، قد يختلف أنواعوعدد الكراتين ولكن النتيجة واحدة، وهي الوقوف محَلَّك سِر، نتحرك داخل أحذيتنا خَوفاً من وقوع البَيض، يَخْفققلبنا لاهتزاز البيض بين أيدينا أثناء السير في الحياة.
المواطن المصري يحمل كرتونة مليئة بالأعباء والمشاكل والهموم تَجعله لا يفكر في إصلاح ولا تغيير ولا تَحْديث،كل همه هو تأمين الخبز والطعام والدواء والمدارس والمَلبس والمَسكن لأسرته، المصري لا يحمل كرتونة بيضواحدة، بل يحمل كرتونة في يده اليمنى وأخرى في اليسرى وأخرى على كتفه وأخرى على رأسه ولو كان هناكموضع آخر ، لحمله المواطن المصري بلا وعي، وهناك من المصريين من يحمل الكراتين وهو يمشي على حبل مخاوفه وهواجسه، والجميع مغمورون بالتوتر الذي وراءه الخوف على كراتين البيض البشري.
فما هي الكراتين التي يحملها المصري؟
لو تم عمل مسح لكل سكان كوكب الأرض لوجدنا أنَّ أكثر شعوب الأرض اهتماما بفَلذات أكبادهم هو الشعب المصري. في التُراث والفِكر والعرف المصري أنَّ الفرد المصري الصالح والناجح في الحياة هو الذي يُنْفق كل نفسهوحياته على أولاده، مال ووقت وهَمَّ واهتمام ورعاية، وينغمس في أداء تلك المهمة تجاه أبنائه وأحفاده حتى يُغادرالدنيا، وعندما يتم تشييعه إلى مثواه الأخير يُمنح لقب )الرجل الطيب والأب الصالح)، ونبتهل جميعا في الدعاء: (اللهم أسكنه الفردوس الأعلى!)
المصري يَخْتزل كل تكاليف الدين والخِلافة في الأرض، التي خلق الله من أجلها بني آدم، في أولاده وأسرته،فالرغيف يُسَمِّيه (العيش)، ورعاية الأولاد يُسَمِّيها (رسالة الحياة) المصري يُخَصّص كل ماله وعلاقاته ومواقِفهالنفسية والسياسية والأخلاقية لصالح أولاده فقط.
في الأفلام المصرية هناك الكلمة المشهورة للمصري الذي يتعرض للخطر أو التهديد، فيقول: (أنا عندي عيال عايز أربِّيهم – أو – أنا في رقبتي كوم لحم)
المصريون رهبان معبد الأولاد والأسرة، وليست المشكلة في هذا الموقف، ولكن المشكلة في ألا يتبقى لدى المصريفائض طاقة لأيّ قناة أخرى خارج هذه الدائرة، وحين لا يدَّخر كل فرد جزءا يسير من طاقته للمجتمع فما المصيرالمتوقع للمجتمع والفرد؟
الأسرة هي البيت، والمجتمع هو الشارع، ولو كان الهَمّ كله لِما داخل البيت، هل تصفو الحياة للناس بينما الشارعقذر وخطر وخاطئ وقاس، وقد يفيض ماؤه الهائج فيعلو ويغمر البيوت ومن فيها؟
