اللوحة: الفنان الأميركي جون فردريك بيتو
ترجمة صالح الرزوق

من مقدمة كتابه «ألاسدير غراي: سيرته بقلم سكرتيره» للروائي الاسكوتلندي روج غلاس
قد يبدو شيئا غريبا أن يختار ألاسدير غراي هذا المكان (حانة كيرليرز) لتناول الشراب في جو جنائزي صامت ويوميا بعد الظهيرة. لكن لـ “كيرليرز” تاريخ طويل ينبئ عن لجوء الأدباء له، قبل ظهور سلسلة حانات “إنها صرخة It’s a Scream“. كان غراي في تلك الأيام يتناول مشروبه فيه، ولا يزال يتردد عليه أحيانا. وكان صاحب المكان مؤمنا بمؤلفات ألاسدير إيمان الكاهن بالإنجيل، ولذلك من المعروف أنه كان يأتي في بعض الأوقات – وبانتظاره جهاز إنذار، إن صحت العبارة، وفي الردهتين. أحيانا يأتي في أوقات استراحتي، مع ذلك أعربت بما لا يرقى له الشك، ولكل العاملين، أنني أحب أن أقوم على خدمته بنفسي، حالما يحضر، وفي أي وقت. ولم أكن متأكدا ماذا يعني لي العناية بالسيد الغامض غراي، باستثناء التباهي أمام الأصدقاء.
وحسب ذاكرتي لم يكن يتصرف بطريقة خاصة – كان يقف في البار، ويحصل على كأس أو اثنين، ثم ينصرف. غير أن ذلك ترك في نفسي أثرا ولو أنه سطحي.
كانت “لارناك” واحدة من أولى الروايات التي قرأت قبل عام من رحيلي إلى غلاسكو. وخلال فترة عملي في كيرلير قرأت كل ما يتعلق بخلفيات ألاسدير، واكتشفت من خلالها بقية الكتاب الإسكوتلانديين، أمثال جيمس كيلمان وأغنيس أوينز وبقية هذا الرعيل. ومع أن عائلتي الإنكليزية لا تعرف شيئا عن الحانة، حينما ذكرت الحانة التي يزورها العظيم ألاسدير غراي، كنت أشعر بالإثارة. فقد كنت مهتما جدا بلقياه. ومثل كل المعجبين البعيدين، رسمت له صورة غير دقيقة. ولا أزال أقطب وجهي كلما تذكرت هذا الموضوع.
لقد رتب بوزويل مقدمة رسمية لتعريفنا بصامويل جونسون (وسمح لنفسه بكثير من الوقت للتخطيط لجملة افتتاحية جيدة)، في حين أن لقائي الأول مع ألاسدير كان أقل حظا لدرجة ملحوظة.
فقد جاء إلى الحانة في وقت خلت به من الجميع والهدوء يخيم عليها – لا زوار ولا سقاة غيري – ولم أكن جاهزا له على الإطلاق. توقعت أنه هو، ولكن ماذا لو أنني مخطئ.
وباعتبار أنني لم اقابل كاتبا ولا فنانا من قبل، تخيلت أنهم يتحلون بصلعة وبسحر وجاذبية خاصة، وينظرون لعالمهم كما لو أنهممتع وسار، ولذلك إذا دخلوا الى مكان ما يتصرفون على هذا الأساس. ولكن بدا لي هذا الرجل الصغير واللافت بشعره الأبيضالغزير ضائعا وهو يقف على مبعدة، بأنوراك مبلول، وكان يحاول جاهدا أن يجد أين هي نقوده. وحينما عثر عليها، لم يكن صوته كما توقعت أيضا – فقد كان عاليا ومرتبكا ولا يدل على الثقة والتمكن. غير أنه كان بغاية التهذيب والوداد. لبيت طلبه، وبشيء من الاضطراب سكبت له شرابه، ووضعته على الطاولة الطويلة، ووجدت نفسي أصيح: “هل تعتقد أن ‘لارناك’ رواية بعد حداثية، أم أنها مجرد نص وضعه النقاد بين روايات ما بعد الحداثة؟”.
نظر لي ألاسدير نظرة فارغة. فحاولت إنقاذ الموقف، وقلت: “إن أخبرتني سأدفع ثمن هذا الجين والتونيك”.
في تلك الأيام لم أكن معتادا على الأسئلة الجازمة والمباشرة، ولذلك فاجأني لحن جوابه حين قال: “حسنا.. لا أعلم. ولكن بمقدوري أن أدفع ثمن الكحول الذي أشربه”.
كان يتلعثم ولا يبدو أنه مسرور.
ثم أغرق شرابه في داخله بسرعة وانصرف.
ونسي ألاسدير من أكون حينما جاء في المرة الثانية، وفي كل مناسبة، كنت أقوم بخدمته، وأحسّن طريقتي معه، ولا أتابع وإنما أبدأ من صفحة جديدة كأنه أول لقاء بيننا.
وعزمت أن أقلل من أسئلتي عن ما بعد الحداثة، وأن أحسّن الخدمة، لأن هذا هو الطريق الصحيح.
في هذا التوقيت بدأت موراغ بالقدوم إلى الحانة، في الفترة الصباحبة، لتتناول نصف مكيال جعة، بتسرع، وهي تتصفح الهيرالد – حاولت أن أقدم لها شرابا على حسابي، ولكن فشلت هذه المحاولة كذلك. كانت أحيانا تتكلم بإيجاز عن مخاطر الزعماء الدينيين المتشددين، وهو موضوع شارك به ألاسدير وكتب عنه في “مكاشفات”(1). وهو كتاب صدر لاحقا عن دار كانون غيت. عدا ذلك كانت تلزم الصمت. ولم يصدف أن جاءا معا.
1- مكاشفات: وجهات نظر شخصية عن الكتاب المقدس. صدر عام 1998. وشارك به كل من بيتر أكرويد، كارين أرمسترونغ، لويس دي برنارز، بونو، أ. س. بيات، نك كايف، الدالاي لاما، شارلز فرايزر، ألاسدير غراي، ب. د. جيمس، بليك موريسون، روث ريندل، ويل سيلف، جوانا ترولوب، أ. ن. ولسون. وقدم له ريشارد هولواي.

روج غلاس روائي وأكاديمي اسكوتلاندي