نقطة على السطر

نقطة على السطر

اللوحة: الفنان اللبناني منصور الهبر

خالد جهاد

ذكرتكِ في وحدتي وفي الوحدة.. لا نذكر إلاّ من نهوى، فاكتفيت بحبٍ لا أمل فيه.. جعلت منه طفلي الوحيد، أغنيتي المفضلة، وسادتي التي تختزن أحلامي، وكنزتي التي لا أخلعها عن جسدي، زهدت في كل ما تلاكِ حتى أصبح الندم عالمي الذي لا سقف له، عالماً بلا منطقٍ أو بدايةٍ أو نهاية، أتألم فيه للأيام التي عشتها قبلكِ وعشتها معكِ وعشتها بعدكِ حتى اكتشفت أنني غريبٌ عن هذه الحياة التي لا يزداد المحبون فيها سوى شعوراً بالجوع والبرد واليتم، وسط طيفٍ من الألوان التي تنكرت لمعناها وبددت جمالها قرباناً لكارهيها، وبين أشياء تشبه الحب.. ولدت من رحمه لكنها لا تمت إليه بصلة..

أصبحتِ أشبه بجسرٍ بيني وبين أمسي الذي لم أفهمه، مرآةً تعري حقيقة مشاعري التي لم تكن ذات يومٍ ملكاً لي، بل كانت ملكاً لمن غابوا وذكرني حضوركِ بهم حتى بتي واحدةً منهم، أخرجت قلبي من صدري لأزرعكِ مكانه.. فتركته وسط بركةٍ من الدموع الحمراء التي لا تجف، تتقاذفني الريح كأغصان الشجر في بلادٍ ليس لي فيها من حبيب، خلف بحرها بحارٌ أخرى تخبىء الشمس تحت معطف الليل، لأمواجها أيدٍ لا تصافحني وصوتٌ قادم من طفولتي البعيدة، حيث بدأت الرحلة من منفىً بين البشر إلى منفىً في الذاكرة التي لا تشفى جروحها، ذاكرةٌ لم تعد تخشى من الغربة قدر خشيتها من تعاظمها، مدعوة هي ككل مساء إلى حفل زفافٍ لا يحضره أحد.. لعشاقٍ تركوا ابتساماتهم فوق المقاعد قبل أن يلوذوا بالرحيل وتمطر السماء بعضاً من الوجوه التي لا زالت تكبر بداخلنا منذ ذبولها وتتلاشى ملامحها مع مطلع الفجر..

يحب الكثيرون هرباً من وحدتهم، هرباً من الصمت بعد الضجيج، يعانقون ثيابهم وأشباه أحبابهم، يشمون عطرهم في وحشة غيابهم، يتحسسون ظلهم، يتخيلون قربهم ويذكرون وجعهم، تتداخل الأصوات وتتلاحق الصور، يقبل عليهم طيفٌ من خلف الضباب، يشبههم لكنه بعضٌ من سراب، بقايا من حلمٍ مبتورٍ بين دفتي كتاب، جف حبر كاتبه قبل أن ينهيه.. فظلت الكلمات تؤرقه، تتراقص على مساحةٍ رمادية لا بوصلة لها، تنتفض كجسدٍ تغادره الروح وتأخذ زمنه معها..

لم تعد الفصول أربعةً كما عهدناها، أيامنا تتساقط كالأوراق عن حائطنا، وأنا على أريكتي.. أراكي ولا أراكي.. تخذلني حواسي، اقترب منكِ وابتعد عن نفسي، حاجز بات يفصلني عن ذاتي حيث لا لوحة تتسع لكلينا وما من مدفئةٍ تحتوي صقيعنا، قلوبنا تتوق لغضبٍ يغسلها من برودها، من نارها المختبأة تحت ضلوعها، من وقوفها في المنتصف بين ضياعها وإحساسها، تريد انتزاع إجابةٍ من علامة استفهام، أعيتها الفواصل في كل حوار وباتت باحثةً عن النقاط، نقطة تفتيش، نقطة تحول، نقطة نهايةٍ تبشرها ببداية فصلٍ آخر، تمحو أحزاناً سكنتنا.. تختتم بها سطراً طويلاً لتكتب بعده من جديد..

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.