«باب الفتوح» لمحمود دياب ومسرح الفرجة الشعبية

«باب الفتوح» لمحمود دياب ومسرح الفرجة الشعبية

اللوحة: الفنان الإنجليزي غونر ميرز

د. حمدي سليمان

تركت هزيمة ١٩٦٧ آلاما واحباطات على المستويين الاجتماعي والسياسي، فالشارع المصري بعد الهزيمة فقد الثقة في كل شيء رغم تمسكه بالقيادة السياسية، وكان يحتاج للغة خطاب مختلفة تقنعه بأن مشروعه القومي والحضاري لم ينته ولم ينهار، وكانت على المستوى العملي بطولات حرب الاستنزاف وما قدمته من نماذج بطولية مشرفة جزءا كبيرَا مما يجب عمله لتغيير الصورة وإحيائها. أما على المستوى الثقافي وخاصة المسرحي فقد انتهز القطاع الخاص التجاري في المسرح هذه الفرصة ليقدم عروضا ضعيفة المستوى تقوم على الضحك المسطح والمتعة الرخيصة، مستغلا هذا المناخ من الإحساس بالمرارة والأسى وإحساس الخديعة وانهيار الحلم والآمال العريضة ليكرس للفردية والهروب الفردي بكافة أشكاله، ولم يضع المسرح التجاري في نظره الظروف الصعبة التي كانت تمر بها البلاد بل كان – ومازال- يبحث عن الربح السريع حتى لو على حساب إفساد كل ما هو جميل وأصيل. ونحن نرصد هذا ليس من قبيل الإدانة لأحد بل من أجل توضيح ضرورة واحترام الأعمال الجادة الهادفة. ففي الوقت الذى كان المسرح التجاري يقدم فيه هذه الأعمال كانت هناك أعمال جادة ومحترمة، يعي أصحابها ما عليهم من دور وواجبات في مثل هذه الظروف وفى كل الظروف، كان محمود دياب واحدا من هؤلاء الذين لم يستسلموا لإحباطات الهزيمة بل أخذ على عاتقة أن يساهم ولو بحجر في بناء وأحياء الروح الوطنية، لتقوم بدورها المفروض والطبيعي والذي كان يؤمن به محمود دياب حتى أخر لحظة، لذا لم يتخلف عن هذا الواقع ولم يهرب منه، لكنه حاول الإفلات من سلطة الرقيب عن طريق الاستلهام والرمزية وطرح قضاياه لا في أبعادها الواقعية المباشرة٬ أو الدرامية المتصاعدة٬ وإنما بطرحها في أبعادها التجريدية ومساحاتها المحايدة٬ دون انفصال لحظة واحدة عن الحاضر الذى ارتبط به جيل كتاب هذه المرحلة. 

مسرح الفرجة الشعبية

مسرح محمود دياب هو مسرح الفرجة الشعبية الخالصة ففيه يمتزج الجمهور بالممثلين ويتوحدوا في حالة من التفاعل الايجابي، فهو مسرح يعرف ماذا يريد ولمن يتوجه، لقد صنع محمود دياب مسرحا تلتحم فيه كل المستويات لتكتمل اللعبة المسرحية كما كان يجب أن يطلق عليها.

وفى باب الفتوح كما في ليالي الحصاد كانت اللعبة أبطالها هم الشباب الذين كان يراهن عليهم دياب في كثير من أعماله. تبدأ مسرحية باب الفتوح بظهور مجموعة من الشباب يمثلون الفترة المعاصرة لزمن كتابة النص وهم أصحاب اللعبة التي سوف نغوص معهم في تفاصيلها بكل ما بها من واقعية وفانتازيا تألمنا حينا وتمتعنا حينا أخر. 

حيث تقدم المسرحية مجموعة من الشباب عددهم سبعة، يتصدون للزحف الأوروبي الصليبي، وهم لا يحملون إلى الجماهير العريضة غير كتاب ” باب الفتوح ” هذا الكتاب الذى تحفظه صدورهم عن ظهر قلب لكي لا يتعرض للمحو أو للحرق،، وحتى لا تصل إليه الأيدي المعادية، حيث تعرى أفكاره الحكام والقادة، وتهدد مكانتهم، لكنها لا تعيق أحلام التحرير من الفقر والقهر، فهم لا يحملون إلا الفكر المعبر عن حب الحياة والثورة وأحلامها، التي تتمثل في إزالة أسباب الخوف والظلم، ورد الحقوق والاعتبار والكرامة إلى أصحابها الحقيقيين، وعدم رفع السلاح على من لا يحمله، فهؤلاء الشباب في لحظة من لحظات الجدل البيزنطي حول الأوضاع السائدة في زمن كتابة النص وحول الأحلام والآمال والإحباطات والحاضر والمستقبل يطل عليهم واحد منهم وهو (الشاب الخامس) الجالس على مجموعة من الكتب القديمة بفكرة التاريخ وما به من انتصارات وإخفاقات عارضا عليهم أن يفكروا في هذه اللعبة خاصة أن التاريخ لدينا ككل التواريخ العربية، مليء بالمغالطات والأكاذيب، تنسب فيه البطولات للقادة والحكام، لا للجنود البسطاء المجهولين الذين يخوضون المعارك دفاعا عن أهلهم ووطنهم، لذا كان عليهم أن يختاروا فترة أو حدثا تاريخيا من أحداث هذه الأمة وأن يعيدوا صياغته بما يناسب أفكارهم ورؤيتهم وواقعهم الحالي، وتختلف الآراء حول اختيار الحدث ثم يستقر الرأي على فترة الحروب الصليبية وخاصة فترة صلاح الدين وانتصاراته واسترجاع بيت المقدس، والولايات الإسلامية من يد الصليبيين، ويلاحظ من الجدل الدائر حول هذه الفترة وشخصية البطل التاريخي صلاح الدين أن الشباب لا يتفقون على رأى واحد تجاه هذه الشخصية فمنهم من يتعامل معها بشكل رومانسي (الفتاتان) وكأن محمود دياب كان يقصد تحميل الرؤية الرومانسية في قراءة التاريخ أو في العمل كله إلى المرأة فهي التي تغلب العاطفة والشكل في كل أراءها كما جاء في النص رغم أن المجموعة كلها أولادا وبناتا هم مجموعة من الشباب المتفتح والثائر على الأوضاع والذى يسعى لتغيير مجتمعه للأفضل، المهم أن هناك تباينا حول شخصية صلاح الدين بين الشباب أبطال النص، وهذا التباين والاختلاف هو ما يجعلهم يعيدون صياغة هذه الفترة والتدخل لخلق حالة جدلية بين البطل التاريخي لهذه الانتصارات وبين بطلهم الشعبي المحمل بأفكارهم وأحلامهم ورؤيتهم. 

نريد بلدنا ولكم الغنائم

 أتفق الشباب على خلق شخصية تحمل من السمات ما يحقق ويظهر أحلام كلا منهم، فمنهم من أراد فيها الفروسية وسمات الشجعان، ومنهم من حملها الذكاء والفطنة والأمانة والعند في الحق، وأخر أكد على عدم حب الشخصية لذاتها وأن يكون له قلب شاعر، وأخر أراد له أن يكون مفكرا وفدائيا عند الضرورة يعرف ما يريد شامخا برأسه في غير تعالى، وأخيرا وفى نفس واحد أكدوا على أنه لا يكذب واختاروا له أسم أسامة، وهو أسم عربي أصيل، وبعد اقتراحات عديدة أستقر الرأي على أن يكون الموطن الاصلي لأسامة بن يعقوب البطل الشعبي هو مدينة إشبيلية بالأندلس، ولكنه رحال في كل الوطن يعرف ماذا يحدث في كل أرجاءه، يتألم للأوضاع السيئة التي تعتريه ولحالة التفكك والصراع الموجودة به، ويسعى لتغييرها عن طريق أفكاره الثورية التي وضعها في كتاب من تأليفه أطلق عليه اسم باب الفتوح، وأخذ يتجول في أرجاء الوطن بهذا الكتاب ليعرضه على كل الناس من أجل تحقيق حلمه ورؤيته، ومن هنا تكونت لديه رؤية عامة وواضحة عن أحوال هذا الوطن، وما يعانيه من تفكك نتاج الصراعات الداخلية ونتاج عدم التحاق المستويين السلطوي والشعبي لذا أخذ يبحث عن بطل من زمنه يتعاون معه لتحقيق هذا الحلم الكبير، وكان البطل هو الناصر صلاح الدين. فصلاح الدين من وجهة نظر أبطال النص هو (سيف بلا فكرة) وهم يسعون لتزاوج السيف مع الفكرة الممثلة في كتاب باب الفتوح وعلى يد البطل الشعبي الاشبيلي أسامة بن يعقوب. 

ويأتي أسامة من أجل رؤية الناصر صلاح الدين محرر بيت المقدس وصاحب النصر العظيم على الصليبين وفى طريقة لمقابلة الناصر يقابل (العماد) وهو كاتب صلاح الدين الرسمي ومسجل انتصاراته وبطولاته وهو رجل ذكى يعلم أن ما يكتبه به كثير من المبالغة ولكنها مطلوبة لتفخيم وتجليل البطل والحدث معا، والعماد هو ابن العماد الاصفهاني – خدم نور الدين في دمشق ورافق صلاح الدين في حملاته جمعيا وكتب مؤلفا أرخ فيه لفتح القدس هو (الفيح القس في الفتح القدس) وهو مليء بالسجع والزخرفة اللغوية، والعماد رغم ذكائه رجل سلفي جامد في فكره ورؤيته للكتابة على السواء لا يرى أبعد من السلطان ولا يحب غيره. 

وبعد حوار سريع بين أسامة والعماد يظهر فيه أسامة كتابه للعماد، ويطلعه على أفكاره الثورية التي يبغى عرضها على الناصر صلاح الدين، يأخذ العماد موقفا عنيدا من أسامة وأفكاره ويتهمه بالكفر، وعدم الوعي الكافي، وبأنه مجنون وما يحمله في كتابه من أفكار إنما هي أفكار مسمومة ومجنونة في نفس الوقت، وهنا يحدث الصدام بين أسامة والعماد مؤرخ صلاح الدين، ويصر أسامة على مقابلة صلاح الدين رغم ما هدده به العماد، ويقابل العديد من الشخصيات التي تحوم حول السلطة والتي ترفض كتابه من منطلق الخوف على مصالحها، فقائد الحرس سيف الدين هو أيضا رجل قوى بلا فكر يرى في أفكار أسامة ما يهدد مصالحة المتمثلة في الجارية والضيعة ويطارد أسامة في كل مكان ويأمر بقتله، ويظل أسامة ينشر أفكاره بين الناس، وعندما تفتح القدس يدخل إليها كل أصحاب المصالح من التجار والحرس وكدابي الزفة وهم أيضا لا ينسون مطاردة الثائر في كل مكان، فهم يخافون من أسامة لكونه يتحدث باسم ولسان الناس، فهو الذى وقف على باب عكا مع أهلها بعد الفتح يُفهم الجند الذين يمنعون الناس من دخولها من أن هؤلاء الناس هم أصحاب الحق فيها، يقول أسامة لقائد الجند (هؤلاء الناس جمعيا فقراء كل عصر، تجمعهم خانه واحدة تأتى في الذيل، فعليهم إن عادوا أن يصلوا في الوقت الذى يتناسب مع خانتهم، عليهم أن يصلوا في الذيل فتألفهم خانتهم خرائب المدينة وحظائرها)، وهنا يؤكد محمود دياب على لسان ثائرة انحيازه الاجتماعي، كما يؤكد أيضا من خلال العديد من المشاهد في النص أن أصحاب الحق من البسطاء هم الذين يضيعون بين الأرجل (فأبو الفضل) وعائلته الذين نزحوا من القدس بعد مذابح الصليبين رجع بعد الفتح وبعد أن قدم أولاده وماله وكل ما يملك من أجل مناصرة جيش المسلمين وأبو الفضل رجع ليجد بيته تسكنه أمرآة يهودية وتديره خانا للتجار ومريدي المتعة ويقول أبو الفضل (عشت حياتي كلها على أمل أن أشهد يوم الانتقام فإذا بصلاح الدين يقبل أن يوقف القتال ويملى شروطا أية شروط؟ أن يدفعوا أموالا يقيم بها قصورا لقواد جنده؟ أين أنت يا زنكى لتقيم جبلا من جماجمهم ! أين أنت لتواجه شياطين الحقد بسيوف الانتقام النارية).

العماد يمنع أسامة من مقابلة السلطان

أسامة – مهلا يا جد مهلا… ليس من خلقنا أن نقاتل عدوا ألقى سلاحه… ولن يكون الانتقام طريقا إلى الحياة أبدا “. أبو الفضل – كلام رخو لا يعجبني. وهنا يظهر أن أسامة البطل الشعبي حتى هذه اللحظة من النص لا ينوى إثارة الناس ضد السلطان، بل هو ينوى مقابلة السلطان وعرض كتابه وفكرته عليه ولكن من سوف يسمح له بذلك، فالعماد عندما قابله وسأله لماذا تريد مقابلة صلاح الدين قال أسامة (إنني جئت لأرشد السلطان الناصر بعد النصر ماذا يجب أن يفعل، إن الرسول كان يقبل المشورة والنصيحة، جئت أطرح أمامه فكرة)، وعندها قال العماد بعد قراءة جزء من باب الفتوح (إن هذا الفتى يحقد على السادة ويحب العبيد)، وهنا يجعل محمود دياب الشباب المعاصرين هم الذين يردون على العماد (يرى أن نعتق كل العبيد والجواري وأن يقيم العامة محاكم لمحاسبة السلطان أذا اخطأ) ولكن هذا الكلام من الصعب أن يصل لآذان السلطان.

في الفصل الثاني، يبدأ محمود دياب بمشهد قفل الأبواب جميعها أمام أسامة البطل الشعبي وكتابة وأفكاره وأيضا وردته التي يحملها مع الكتاب، ويخرج الكلام باسم أهالي عكا إننا نريد بلدنا ولكم الغنائم نريد الحياة للجميع، ويظل أسامة مطاردا يسعى لمقابلة الناصر صلاح الدين ويزداد حجم إتباعه يوما بعد يوم ويصبحون أكثر ثورية من أسامة بن يعقوب نفسه، أما السادة الذين يخافون من أسامة الثائر العربي وكتابه وأفكاره يريدون أن يشتروه كتابه ليتخلصوا من هذا الصراع الشعبي الذى خلقه هذا الثائر. 

ويصل النص مع دياب في هذا السخونة الجدلية والتصاعد الدرامي إلى مراحل مهمة، توضح أراء وأفكار محمود دياب التي يُحملها لثائره، فهو المنحاز اجتماعيا والمؤمن بالثورة الشعبية وضرورة هذه الثورة والمشاركة الشعبية في صناعة التاريخ، فهم الأبطال الحقيقيون لكل حدث تاريخي، لذا لا يجب إغفالهم أو تجاهلهم، وعلى هذه الشعوب أن تخلق ثائرها بنفسها وتصنعه من أحلامها وطموحاتها، وإذا ضعف أو بدت عليه الحيرة في لحظة لابد من أن يدفعوه بقوة ويساندوه لتحقيق أمالهم بكافة الأشكال، وهو ما جاء على لسان شباب من الشباب حين رأى إصرار أسامة على مقابلة السلطان ووضع كتاب باب الفتوح بين يديه. قال هذا الشاب: (فلنفترق ولكن على موعد يمضى كل منا إلى داره ومعه نسخه من باب الفتوح. إن كل الناس في بلدي مثلنا، يحبون الحياة، ولكنهم قنعوا بنصيب ضئيل منها لأنهم لا يعرفون الطريق إلى ما هو أفضل، فقد ضربت حولهم الأسوار حتى لا يعرفوا، سنهديهم نحن إلى الطريق. لن نفعل أكثر من أن نتلو عليهم كتابنا. والناس في بلدي حكماء وإن يكونوا أميين، سنفجر فيهم ينابيع الحكمة، فربما أضافوا إلى باب الفتوح شيئا يجعله أكثر عمقا وأصلح للحياة، ويصبح حلمنا ملكا للجماهير ولن يمنع مسيرتها عندئذ سادة البلاد كلهم ولو كونوا من أنفسهم جيوشا… ولن يعوقها انتظار إذن من حراس القصر بمقابلة السلطان). لكن هذا لن يحدث بسبب مطاردة الحرس للناس وأسامة حتى موته وحيدا. 


مسرحية باب الفتوح لمحمود دياب واستلهام التراث

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.