هيام علي الجاويش
اللوحة: الفنان الفرنسي بيير أوغست رينوار
صديقي.. هل رأيت المطر في الخريف؟ مطر الخريف يأتي غزيراً، البرق يشقّ صدر السماء والرعد يمزق الصمت. حبات المطر تتساقط، تتسابق، ربمّا لتحجز مقعداً في الرجة الأولى.
هكذا كانت دموعها وهي منهمرة لتستقر على راحتيها اللتين غطتا وجهها. دخل، نظر إليها ربت على كتفها ولم يقل شيئاً وخرج وكأنه اعتاد وعلّم ويعلم.
كان قد اعتاد أن يرى الفصول في عينيها كل شهر فبعد فصل الشتاء هذا يأتي فصل الخريف, ثم الربيع وبعده شتاءٌ آخر. فبعد فصل الدموع هذا يأتي فصل سبات وبذار ويليه فصل أمل وانتظار البراعم الصغيرة كي تتشكل, ولا ينتهي هذا الفصل إلاّعندما ترى ذلك اللون, وتحس القاتم قد خضّب روحها قبل سروالها, ليبدأ فصل الدموع من جديد.
صديقي.. إنها لمياء أو لنقل نجلاء كما كان يحب أن يسميها مدّرس اللغة إبراهيم.. لماذا سمّاها وكيف؟ ابراهيم خريج جديد تعيّن في ثانوية مرمر وبما أنه من محافظة ثانية قرر أن يسكن في تلك القرية فكان له ما أراد, سكن وشكل صداقات مع معظم سكان القرية.
في الربيع في نهاية شهر آذار، كان في الصف الثالث الثانوي, ودهش عندما رآها, فكيف لم يلحظ وجودها من قبل؟ أشار إليها وقال: أجيبي على السؤال الثاني يا، يا نجلاء.. صححت الفتاة وقالت: لمياء يا أستاذ، لكنه أصرّ نعم لمياء ولكنك نجلاء أكثر! أجابت لمياء على السؤال ولشدة إرباكها لم تقل أيّ كلمة صحيحة، انتهت الحصة ولم ينته إربكاها.
بعد هذا، كان في كلِّ مرة يناديها نجلاء وكانت كلُّ مرة تصحح إلاّ مرة واحدة، سأل، ما عنوان درسنا يا لمياء؟ فصححت نجلاء يا أستاذ, ابتسم وابتسمت, وأدركت بأنها هي من وقع في الخطأ. لم يطل الوقت حتى انقطع الطلاب للمراجعة والتحضير للامتحان، وكم كانت غربته كبيرة! كان يتحسس وجودها كلّما دخل إلى المدرسة, فيشعر بفراغ كبير, ويفقد الرغبة في الدوام، ثم بدأ بتتبع أخبارها, محاولاً مصادفتها أو رؤيتها ولو من بعيد.
بدأ امتحان الشهادات، وصمم في نفسه أن يقول لها كلّ شيء عندما يراها، وباءت كل محاولاته بالفشل, وكأن القدر يعاكسه. في كل مرّة كانت تنهي امتحانها وتعود فوراً إلى البيت. إذاً ما العمل؟ يوم واحد و ينتهي الامتحان, فقرر أن يطلب إذنا من المراقبة كي تتسنى له تلك المصادفة المزعومة، وفعلاً هذا الذي حدث.
على الطريق الترابية المؤدية إلى القرية اقترب منها وناداها، ألتفتت, تسمّرت وتجمّدت، أما هو فعمد إلى الحركة والفوضى والضحك, لعله يستطيع أن يخفي عنها طبول الحب ومعارك الحواس في داخله. سلّم وسأل: هل تقدمين الامتحان في تلك المدرسة لم أكن أعلم, هل لي بورقة الامتحان؟ مدّت له الورقة فالتقطها ووضعها إلى جانب الأخرى القابعة في جيبه, فليس به حاجة إليها، حاول مرافقتها لكنها ترددت في البدء بقولها: لكن.. يا أستاذ، قطع كلامها بحدّة لست أستاذا, ولست طالبة! ابتسمت ونظرت باستغراب.. من نكون إذاً؟ تابع دون أن يعطيها فرصة للكلام: أنا شاب وأنت فتاة،آسف, أقصد, يعني غير أستاذ, أنت صبية أيّ فتاة, أنت يعني غير طالبة, وأتت جمله مفككة مضطربة، توقف للحظات مفكّراً، ما الذي حلّ بك يا ابراهيم؟ أين ضاعت فصاحتك؟ أتخاف أن تكلم فتاة؟ هذه فرصتك هيّا وإلاّ أضعت كلَّ شيء. استجمع قواه وقال: أعرف عنك كل شيء واتقصى أخبارك، وعندما رأى الدهشة في عينيي الفتاة، حدث نفسه، حمار غبي أكل هذه القوة لمثل هكذا عبارة؟ وتاهت الكلمات ولم يعرف كيف يصلح ما أفسد، إلاّ أنه توقّف وصرخ: قفي، وتحدث بعصبية وصوت عال قائلاً: أنا أكره الشعراء ولا أحب الشعر، ولا أعرف كتابته، ولو كنت أعرف، لكنت كتبت دواوين.
سألت الفتاة بسخرية قائلة: أمن أجل هذا، كل هذا؟ وما شأني؟ تكتب دواوين لأي شيء؟
وبنفس الوتيرة وصوته العالي قال: أغمضي عينيك، ترددت وارتبكت فلأي شيء تغمض عينيها؟ لكنه كرر بانفعال أكثر: أغمضي عينيك.. أغمضت عينيها، وبعد أن سمعت ما قال، شعرت بشيء هبط من صدرها, وتعثرت به قدماها، لم تعر بالاً، لعله قلبها، وتصلّبت الكلمات على صقيع شفتيها, أيضاً لم تعر بالاً، فهي على كل الأحوال لم تعد قادرة على الكلام، لكن المشكلة في أنها لم تعد قادرة على فتح عينيها.. الآن أزاح الحمل عنه، ووطئت هي تحته. سألها بهدوء وحنان بالغين ما بك أرجوك افتحي عينيك, أرجوك هل أزعجتك؟ يا إلهي ماذا فعلت أحس بأن قلبي سيتوقف.
وفتحت عينيها على نهر من الدموع وقالت: سلامة قلبك. سألها وهل يهمك قلبي؟ إذاً لماذا البكاء؟ أشاحت بوجهها وفكّرت، بكاء! ماذا يعني بكاء؟ لكن ما أشهى البكاء في مثل هذه اللحظات.. مسحت عينيها وابتسمت وقالت: أنا.. لا أنا لم.. لكنك أنت.. لكن أنا.. أين أنا؟ فأخرجها من إرباكها, بأن أمسكها من كتفيها وأدارها بقوة باتجاهه صارخاً: أنت هنا، وضرب بكلتا يديه على صدره, وفتح يديه مباعداً بينهما وجثا على ركبة واحدة قائلاً: أشكرك يا ال!له أشكرك يا لمياء، فردت بدلال: نجلاء يا أستاذ مدت يدها ونهض.. تابعا المسير دون أي كلام كلٌّ في عالمه وقد استنفذت قواه. على مشارف البيوت سلك كلٌّ طريق بيته، تنبه إلى أنه لم يقل شيئا عند وداعها؛ فالتفت صارخاً: نجلاء قولي لأخيك إني قادم.. ومن ذلك الحين أصبح أسمها نجلاء.
عاد زوجها إبراهيم وسألها حبيبتي ألم تنضب دموعك بعد؟ انظري في وجهي ألاّ يكفيكِ أنا؟
نظرت بعينيها النجلاوين وكانتا باحمرارهما ورموشها المبللة قد زادتا سحراً. وقالت: أنت هل يكفيك أنا؟ أريد ولدا لي ولك، أمسك وجهها براحتيه قائلاً: عمري فداء تلك العينين, ثم أردف قائلاً: سأرى من القادم يبدو أن أحداً ما هناك.
لحظات كان سامر أمامها، اقترب منها مهوناً عليها ومؤنبًا لها, كمن خبر كل الأزمات وتجاوزها قائلاً: يكفيك عذاب, لست الوحيدة التي تعاني في هذه الحياة وثقي بأن كل إنسان يعاني من فقدان شيء ويظنه الأهم، اسمعي،(الصحة, الخبز, المال, البيت, التعليم, الوطن, الحرية, وماذا أيضاً, هناك الكثير) وكل لا يرى ولا يفكر إلاً بما ينقصه، أتعتقدين أن الأولاد أهم شيء في الحياة؟ إن الله يقول: وقل رب زدني علماً، ولم يقل زدني أولاداً, وإذا كان الأولاد هم غاية الحياة, إذاً لماذا تركتنا أمك بعد وفاة أبينا وتزوجت؟ قولي يا لمياء لم لم ترضعني؟ من كان أحق بحليبها مني؟ لكن كما تقول أمك (الزلمة سترة) وكأن جميع من ترمّلن وربين أولادهن, ورفضن الزواج بعد موت أزواجهن هنّ نساء مفضوحات غير مستورات.
انظري للحياة, للناس حركات الناس تتشابه تصرفاتهم أيضا، وكل لديه ما يشغله والذي يختلف عما يشغل غيره، لكن عند الصباح يطوي ما عنده وينخرط بالحياة, كلٌّ لديه مخزونه الذي يرفض أن يتخلى عنه, أتدرين لماذا؟ لأنه سرُّ وجوده وأمله الذي يسعى لتحقيقه, الحياة بنيت على الأمل, ولا بد من التناقض لدفع مسيرتها ومسيرة التطور الكلي والذاتي, فقط خففي من هذا القهر الذي أصابك وتصيبينا به. وخرج من حالته فوراً متابعاً: قولي لي لماذا لم ترضعني؟ فلو أرضعتني لكنت زرتها واشتريت عشرة أرطال وعوضت لها الحليب، لكنها كانت مستعجلة على العريس مثلما كانت تقول جدتك.. رسمت ابتسامة على وجهها لم تلبث أن شعت من عينيها وروحها.
ومرّت السنون على لمياء كمن يقلب في دفتر عتيق بأيام تعودت الرتابة كعقارب ساعة هرمة تحاول المسير رغم الضجر, فيفر الزمن منها ويسيل ثم يجف، الأحداث تتكرر والمواقف أيضاً ساعة تقتل ساعة لتصعد على جثتها وعندما تصل تبدأ من جديد. الخطوة تلو الخطوة للوصول إلى نقطة البدء، تارة كانت تضحك وأخرى تبكي, وفي أحياناً كثيرة تتذكر, وأحياناً أخرى تنسى، تشعر بالحزن وأحياناً تشعر بالحبور, ولكن هناك شيء ما تفقده وتتفقده في ذاتها تبحث عنه, وتجده وتتلذذ بعذابها وهكذا تخرج من حالتها لتعود إليها، الأمل واليأس كانا يحيطان بها بشكل متعاقب ومتساو، أما الخيبة فكانت تلف الاثنين.
شكلت علاقات مع جيرانها سرعان ما سئمت منها، فكلُّ أحاديثهم لا لون لها ولا طعم، فهي إما عن الأولاد أو عن مدارس الأولاد, أوعن المشتريات والمصاريف، وأحياناً عن المسلسلات إن كانت تركية أو مكسيكية أو هندية. ونظرها إما في الأفق أو في الأرض وأحياناً في الأوجه وتهز رأسها دلالة الاستماع, ولا تتكلم, فعن أيّ شيء تتكلم؟ وتتساءل، أكل عناء هذا المجيء من أجل هذه الأحاديث؟ فتفر الكلمات من ذاكرتها وتغيب الصور عن عينيها ترى الأشياء كلها متشابهة الألوان، والأوجه أفواه تُفتح وتُغلق مع سماع أزيز وصرير مزعج, ألسنّ تعلو وتهبط بحركات كأنها استعراضية، فلم تستطع المنافقة أكثر.
عندها قررت العودة لدراستها والتي انقطعت عنها لأسبابها الخاصة, درست وتخرجت، ثم تعينت. تزوج أخوها وكوّن أسرة, وكانت سعيدة به, وسعيدة مع إبراهيم ولم يكن ينقصها إلاّ ولد لأجلها ولأجل ابراهيم.