اللوحة: الفنان العراقي خيري السومري
سليم الشيخلي

الشمس تدخل شروخ قريتنا من كل الاتجاهات ومازالت تحمل أسرارها. يعرف بعضها الجميع، لكنها تبقى أسراراً نحملها بصمت الصفصاف في هجيرة معزولة، نخبئه موروثات معلقة على جدراننا، لذا كنت الوحيدة التي تعرف قصة حب ابنة عمي وحمد، شهدت أكثر لقاءاتهم وحرست بعضه. أعرف أية حمرة تلتصق خديها، معزوفة اللهاث البشري بعد رحلة يديه الخجولتين موانئها تلملمها أغنية خضراء. أتخيل أشياءها بحرية وهي تروي بهدوء عن دفء شفتيه، الموجات الوردية التي لا تعرف من أين تأتي فتهز جسدها لتحلق سنونوة تائهة بدروب عسلية.
عزيزة، اقتسم معها الطفولة، المرح، الأسرار التي تكبر معنا، أخبرتني أن البقال قد تحسس جسدها فهربت خائفة. تعمدت الذهاب ليمد يديه، حدث ذلك، نهرته متوعدة أن أخبر أبي بذلك، ومنذ ذلك الوقت يصفر وجهه كلما مررنا به لنأخذ حلوى بالمجان.
الوقت يمر موجات منسية والحب لبلابة تتخفى بين النخيل، القرية ليست مدينة يضيع الناس داخلها فأي خطأ يرسم بالدم نهاية قاسية.
اقتربت امتحانات الثانوية فتوقف حمد عن مساعدة أبيه في الحقل، لم يعد يركب دراجته ويرن جرسها قرب بابنا، انزوى ظلاً كثيفاً ليذاكر فيه فكانت تذاكر له كما العصافير. كنت حضيرة استطلاع متقدمة، لذا لم ينجح تلك السنة وشرب من تقريع والده ما يكفي ليتعلق بها أكثر ويهيم حباً ملأ روحيهما بالحياة فاجتهد بصدق للسنة اللاحقة ونجح.
لاحظ والدانا أن الرمانتين تندفعان لتشقا الثياب، الجسد يشمخ بكبرياء أنثى تبحث ظلاً تحت غابات الشعر الأسود فالشرف عزيز، لذا انهارت ابنة عمي ورقدت في مستشفى المدينة عشرة أيام كنت أمكث معها أحيانا.
ـ سأنتحر.
ـ خليها على الله.
ـ كيف أتزوج أخيك.
ـ العشيرة!
ـ لا يمكن أن أتخيله أكثر من أخ.
ـ والحل؟
ـ لا أدرى.
ـ وحمد؟
ـ زارني مساءً.. فبكينا.
بعد فترة زفت إلى أخي وسكنت معنا ظلاً لجسد يتساقط. اختفت الفراشات والأغاني المرحة. لم يهتم أخي بالأمر فقد حاصره عمله في المدينة ليعود خائراً في المساء ينتظر الجمعة ليمارس رجولته في صناعة الأطفال.. وهكذا تمضي الأمور.
كانت لابتسامة أمي تلك الليلة طابعاً غريباً وهي تخبرني أن حمد الموظف في بريد القرية قد تقدم لخطبتي فجاءت دهشتي متأخرة بعض الوقت.
ـ أرجوك لا تقبلي. هكذا قالت ابنة عمي وأضافت:
– أدمنت الظلمة فلا توقدي شمعة في نهاية النفق
أبي، جدران القرية، الفاتحة، الأيادي المتشابكة، زغاريد في الغرف الأخرى وأبوابي الصامتة. بدأ يزورنا بانتظام لتتبرعم لبلابة تتسلق نخلتي. ينزل المطر وتجيء الفراشات والأغاني تجلي صدأ أبواب وشبابيك عتيقة. اختنقت ذاكرتي وحاصرتني الحيرة بالكلمات
الجافة. في ليلة الدخلة كنت جارية حمقى تراجعت انوثتها وأشياء اخر فاستسلمت للزينة. جلست على حافة السرير والإكليل يغطيني. جثا ركبتيه، أمسك يدي يقبلها بعطف قائلاً:
ـ لم أجد وسيلة لرؤيتها إلا بك.
ـ قتلتني يا حمد.
ـ الموتى لا يقوون القتل.
تمر السنوات من بين أصابعنا، أحسها بأطفال يكبرون وكبار يرحلون، أشجار تمتد بظلالها مساحات جديدة، أوراق تتساقط. تزحف القرية للشارع الجديد والشمس تدخل غرفها من كل الاتجاهات تحمل أسرارها بصمت الصفصاف.