اللوحة: الفنان الكندي مارسيل دزاما
عندما أتذكر كل ما أمْتعني في طفولتي وصِباي؛ أشتاق لِتِكرار التجربة، لعلي أسْتَعيد مذَاق الماضي، كنت أحلم بِشِيكولاتة “كُرُونا”، ثمنها ثلاثة قروش ونصف، اشتريتها في طفولتي مرة واحدة مُتَهوِّرة، والسبب أنني وأخي الأكبر؛ لم نُنفق أبدا مصروفَنا اليومي في طفولتنا سوى على مَجَلَّات الأطفال، اليوم أستطيع تناول أشْهى وأطعم شيكولاتة، وكلما تَذوَّقت نوعا بَحثت عن طَعْمه ومذاقه القديم الذي أطارده في خيالي، وكما يقولون؛ “الي فات مات”، والماضي لا يعود، وطَعْم الماضي أيضا لا يعود.
أمْسك بروايات؛ يوسف السباعي وإحسان عبد القدوس وغيرهما من فِرسان الرومانسية، وأقرأ نفس الروايات التي كانت تُحَلق بي في السماء وتلوِّن خيالي بأزهى الألوان، فأعجز عن تسلق الخيال عاليا، أشعر وكأن خيالي أصبح ثقيلا وأخْلد إلى الأرض، أصبح خيالي سَمينا وسَميكا، حتى أزْهار الرَبيع التي كانت تَمْلأ وجداني وخاصة زهرة البرتقال، فحَوْل مدينتنا كثير من القرى التي تَشْتهر بزراعته، تَهبّ نسائم تلك الرائِحة السرمدية إلى أنوفنا وتقتحم بيوتنا، لا يمكن وصْفها، كل ما أتذكره هو تَعْبير خاص بي في شبابي؛ “أحلام بِطعم زهر البرتقال”
هذه الرائحة تُثير الخيال وتجعله يَنْطلق إلى عالم الأحْلام، أحْلام بالألوان، حلم الشباب والفتوة والحب الصافي والانسجام مع فتاة الأحلام، الفتاة التي أتخيلها تتأملني في عشق وإعجاب بهذا السوبرمان، يا لها من مُتعة لا توصف! إياك أن تَتخطى الصبا دون أن تَتذوق هذا الخيال.
اليوم أملأ أنفي بتيارات من تلك الرائحة، أجلس وسط حديقة البرتقال كالغاطِس في مِسبح من عِطر، لا أعرف ماذا حَدث؟ هل أنْفي لم تَعد تلك الأنف؟ أم أصابها تَسْريب مثلما يحدث في المواسير حين تَصْدأ؟ للأسف الأحلام البايْتة مثل الطَبيخ البايت. الأحلام لا تفعل فعلها إلا في زمان ومكان وسِن وشَوْق الفتيان والفتيات، فالشباب شُعلة الجنون، الذكاء، الاندفاع، بل والغرور، للشباب استمتاع كامل بكل لذَّة، (الطعام، الشراب، الجِنس، العِطر، السيارات، الملابس، الرحلات، الألعاب، المُغامرات….الخ.) الشاب ينفعل ويتفاعل مع كل هذا بجميع كيانه وأحاسيسه، فكما هو شاب، فأحاسيسه شابة لم تَبْهت صِبْغتها، ولم تَجفّ مادتها. عندما تُصافح الشاب َيشدّ على يديك بقوة، وربما يَعْصرها، يريد أن يُشعرك بقوته، إنْ وجد جمالا أو عضلات مُقسَّمة في جَسده؛ أرتدى ما يُظهرها في استعراض مُتباه يسير على قدمين، الشباب تَضحية وبَذل، فمع قوة إحساس الشباب بالحياة، هناك قوة مساوية في بَذلها والتضحية بها، الشاب يمتلك كامل حياة ولا يبخل بها، والشيخ يمتلك بَقية حياة ويتشَبَّث بها بقوة.. هل يدفعني هذا لأقول: ليت الشبابَ يعود يوما؟
أنا لا أتمنى أنْ يعود الشباب، وأفزع أن يعود، تجربة الحياة لم تكن بتلك الصورة والذِكْرى الوردية، فالشباب إنْ وصفناه بالزهرة فسوف يَستلزم ذلك تَذَكّر كثافة أشواكها، الحياة سلسلة من الأحلام الطائشة، والأوهام الضالة، والمخاوف العَبِيطة، هل يَتمنى الطفل “بِلية” بعد أنْ أصبح “أسطى قد الدنيا” أن يَخوض التجربة ويُعانيها ثانية؟ كم ناله من الصَفعات على قفاه وصدْغِه تأديبا كلما أخْطأ أو تأخَّر أو تَغابَى، كم وقع أسيرا في سجن الرعب؛ من أن تأكُله أمّنا الغولة أو أبو رِجْل مَسلوخة، حين كان أسيراً للبراءة، كم من أداة طاشت من يده الخَرقاء فاستقرَّت في جَسده وأدْمته وآلمته، كم من جُنْحة غرامتها قروش قليلة؛ أنفلتت منه فعاش في رعب ووهم مطاردتها له، وهو يظنها جُرما عظيما وذنبا لا يغتفر، حياة خَرْقاء ومُهينة، ومخاوف ضالة وأليمة.
يُرْوَى أنَّ هناك حيوانات ضخمة يَسْتأنسها الإنسان ويُسَخِّرها له، لدى الحيوانات جِهاز للإبصار يُضخِّم صورة الإنسان فيراه الحيوان أكبر وأقوى منه.. يعيش الحيوان في ذل للإنسان تحت هذا الوَهم، ولا يَكون لقوته عملا سِوى خِدمة سيده الإنسان، الذي يراه خلال عدسة مكبرة، هكذا هي الحياة في معظمها، تُنَغّصها المخاوف، والأوهام، والأحلام الطائشة، والمعاناة العاطفية، والضمير المُلتهب دائما، كيف يَستمتع الإنسان بالطعام الشَهي وقد دُسَّت فيه جُرعة عالية من البُهارات الشديدة الحرقة، فلا يَمر خلال الفم والمريء والمعدة إلا على جِسر من نار الألم، هل منْ يُجْبَر على تناول هذا الطعام يقال إنه تَمَتَّع بطعام شَهي ولذيذ؟
لهذا أقولها في حَسْم وإحجام: لا أريد للشباب أن يعود.
