اللوحة: الفنان الفرنسي جيفروي هنري جولز جان
هل يعد خطف الأطفال جريمة يعاقب عليها القانون؟
هل ينطبق مثل هذا القانون أيضا على أطفال الشوارع؟
هل يهم الرأي العام اختطاف ما يقرب من 400 طفل من أطفال الشوارع من خاطف مجهول الهوية؟
هل يمكن أن يؤرق الآباء في العالم خبر مثل ذلك؟ أم أن لأطفال الشوارع قانونا خاصا بما أنهم لا أهل لهم، أو لهم أهل قد تخلوا عنهم؟
كانت شوارع بيروت تمتلئ بالأطفال المتجولين الذين يتكسبون رزقهم ببيع لفائف العلك والورود ومناديل الورق واليانصيب ومسح الأحذية، لا أحد يهتم، ولا يعير انتباها، وربما تعرضوا للنهر والضرب، وربما اختفوا في ظروف غامضة.
ذات يوم، انتبه أهالي المدينة أن جميع هؤلاء الأطفال اختفوا فجأة، اختفوا من ساحة الشهداء وساحة البرج وجانب الريفولي وشارع المصارف ودرج خان البيض ومحيط سينما روكسي والأمبير والأوبرا، بالطبع لم يهتم الناس، لكن أهالي من له أهل منهم ضجوا وصعقوا، وصاروا يبحثون عنهم في كل مكان، ويبلغون عن اختفائهم، ليس لأنهم بالطبيعة أبناؤهم، لكن لأنهم مصدر رزقهم، والغريب أنهم لا يعرفون أين وكيف اختفوا.
استمر البحث والاستقصاء عن هذا الحادث الغريب الذي اختفى فيه حوالي 400 طفل دفعة واحدة، فتبين أن الخاطف رجل من الأثرياء، لم يرزقه الله بالذرية، وكلما كان يمر بالشوارع ويرى الأطفال يتسولون لقمة العيش، اشتد حزنه عليهم، وغضبه من ذويهم، لأنهم حرموا بذلك من التعليم ومن أقل الحقوق الإنسانية، فأراد أن يلقن أهاليهم درسا، وينقذهم مما هم فيه.
تلك الحادثة بالطبع لم تحدث في عصرنا هذا، فلم يعد بيننا من يقدم على مثل ما أقدم عليه هذا الرجل الآن، لقد حدثت في عشرينيات القرن الماضي عام 1922، وخاطف الأطفال هو الراحل رشيد بيضون الذي أصبح نائباً ووزيراً للدفاع وأحد رجال الاستقلال في لبنان، وكان ما فعله بيضون نوعا من التمرد على النظام الإقطاعي آنذاك، الذي كان يقدّم حاجة الإقطاعيين على سائر فئات الشعب تحت شعار «البيك» يتعلم من أجل شعبه.
اختطف بيضون هؤلاء الأطفال، وحين أتى الأهل إليه كان ردّه عليهم: هؤلاء أطفالي وليسوا أطفالكم، وأنّبهم على ما فعلوه، وطلب منهم عدم إرغامهم على النزول للشوارع ووعدهم بإعطائهم مصروفاً أسبوعياً مقابل أن يلحقوا أولادهم بالمدرسة، وحدد لهم يوم السبت ليعطي كل عائلة مجموع ما كان يؤمنه طفلهم شرط ألا يغيب الطالب عن مدرسته، ووضعهم في المدرسة العاملية الابتدائية في رأس النبع التي أسسها لتعليمهم على نفقته الخاصة، وقد تخرج غالبيتهم من المدرسة العاملية، وأرسل النابهون منهم إلى ألمانيا وفرنسا وبعض دول أوربا لمتابعة دراساتهم الجامعية، والجدير بالذكر أنه بعد عام واحد من هذه الحادثة، أسس بيضون الكلية العاملية عام 1923، ثم تلاها افتتاح 44 مدرسة في الجنوب والبقاع وجبل لبنان، طامحا إلى نشر العلم والمعرفة بين كل أفراد وطوائف المجتمع، فقد أسس بذلك أول صرح علمي في بيروت يضم كل الطوائف دونما تفرقة.
وُلد رشيد بيضون عام 1889، وتعود أصول عائلته إلى الشام قبل أن تستقر في بيروت، لكن ظروفه لم تسمح له بتلقي التعليم العالي، فدرس في مدارس بيروت الابتدائية وفي المدرسة الأمريكية في صيدا، وأنشأ مع عدد من أبناء بيروت الجمعية الخيرية الإسلامية العاملية للاهتمام بالفقراء، ثم أنشأ الكلية العاملية لتوفير فرص تعليم للفقراء والمحتاجين، وقد قال عن غاية إنشائها: «إن الغاية التي من أجلها أنشئت الجمعية الخيرية الإسلامية العاملية هي نشر الثقافة في الربوع اللبنانية، ومحاربة الجهل من أجل تكوين جيل جديد يتفهم معنى الحياة ومعنى الحرية، وما الكلية العاملية وفروعها سوى الأداة لتحقيق هذه الأهداف، والمساهمة في بناء مجتمع صالح يعمل لخير الأمة العربية والوطن اللبناني».
دخل رشيد بيضون بعد ذلك معترك السياسة فترشح في مجلس النواب كنائب عن بيروت عام 1937، كما شغل عدة مناصب وزارية منها وزير العدل، ووزير البريد والبرق والهاتف، ووزير الدفاع، وكان على رأس من ناضلوا لنيل الاستقلال من الانتداب الفرنسي مستخدماً شتى أنواع الوسائل، وأبرزها كان سلاح العلم والمعرفة والوعي الاجتماعي، لكنه اعتزل السياسة في أيامه الأخيرة.
تزوج من السيدة السورية نظمية الشمة، لكنه لم يرزق منها بأولاد، وتوفي عام 1971 بعد معاناة مع المرض، فهل تتذكر مجتمعاتنا الآن مثل هؤلاء الرجال؛ فتعلي من شأنهم، وتجعلهم قدوة يتبع خطاها شباب اليوم؟

رشيد بيضون
