هيام علي الجاويش
اللوحة: الفنانة المجرية إلكا غيدو
صديقي، هل تريد المزيد عنه؟ سأحدثك عنه وعنها.
صديقي: عندما نتحدث عن أحد ما فإننا نأخذ صورته كاملة وجاهزة، فعندما أقول طبيب، مباشرة تقفز إلى الذهن صورة متكاملة لرجل في مشفى أو عيادة مع حقيبته وسماعاته ومعطفه الأبيض، وقد نتخيل أنه يحاور ويفحص مريضا، وربّما تخيلناه في غرفة العمليات يقص ويخيّط.
وإن قلت مهندساً، نتخيله وراء مكتبه أو مرسمه ينشئ المخططات ويرسم ويمحي ويبدع على الورق, وقد نتخيله في أحد مشاريعه ينظّم ويدقق ويصدر الأوامر ويصحح الأخطاء ويبدع على الأرض.. وإن قلت أستاذ، نتخيله في مدرسته يربي ويعلم ويمتحن ويصحح ويعاقب ويثني ويشجع.. وإن قلت محامياً، نتخيله في مكتبه يراجع ويدقق ويبحث ويلملم أطراف القضية, وقد نتخيله في قاعة المحكمة بلباسه يدافع ويرافع أمام القاضي وأمام محامي الخصم. لكنني هنا، سآخذ صورته وأجزئها وأبعثر أجزاءها ثم أجمعها كما أريد، لماذا؟ لأنني أعرفه مذ كان في المهد وليداً، فمن صغره كان مشهوداً له بالذكاء وبتميزه، حتى أن أساتذته لم يكونوا هم أصدقاؤه, إنما كان هو لهم الصديق وعلى ذلك لن أزيد.. درس وجدّ وتعب ونحت في الصخر للوصول، فالمستقبل يستحق هذا الجد والتعب، و.. وصل، وهنا أتوقف عندها قليلاً لأعود إليه لاحقاً.
من هي؟ هي أيضاً أعرفها منذ ولادتها, وهي كما قلنا عنه إلاّ أنها تعثرت في الثانوية العامة أي لا طب ولا صيدلة، لا هندسة ولا حقوق، ولا أيٌّ من الفروع، وهي تربط الذي حدث معها بهذا الأمر, هذا من وجهة نظرها هي، وسأروي لك الذي سمعته منها, ولن أقيّمّها لأني لا أتحدث عنها إلاّ من خلاله, وربّما في مرة قادمة أحدثك عنها.
في يوم تموزي حار كنت افترش البلاط, قُرع الجرس فَتحتُ ودَخلتْ، بعد السلام والاطمئنان على الصحة سألتها لأول مرّة عنه فقد كانت لدي معلومات بسيطة عن نشوء علاقة ما، فأجابت بحذر: بأنها لم تعد تراه كما في السابق بعد أن سافر إلى مكان بعيد، لكن آخر ما علمته منه وعنه أنه سيتزوج. فقلت لها إنما أنا أسأل عنك وعنه، فقالت مكابرة: أنا وهو نختلف، سألت من جديد وكيف تختلفان وبماذا؟ فأجابت: أن علاقتها به نوع آخر من أنواع الحب، هو حب من أجل الحب، وأيضاً حتى يبقى المحب متشّربا وممتلئا بمحبوبه يجب ألاّ يرتبط به, فإذا ارتبط ينتهي هذا الحب ولن يبقى الحبيب ممتلئاً بمحبوبه.. فسألت باستغراب هل أنت مقتنعة بمثل هذا الكلام؟ إلاّ أن دمعتها سبقت لسانها فكفكفتها بخجل، ولكنني قلت لها: ابكي، فان لم تبكِ الآن ستبقى دمعتك في عينيك، ودخلت المطبخ لأعدّ شيئاً لي ولها, ريثما تنتهي.
عدت إليها ووجدتها أكثر تماسكاً, ولم أتكلم حتى تكلمت هي وقالت: بعد سفره, كان عندما يعود يحدثني عنها وبشكل دائم، وأظن أن علاقته بها تأخذ منحى الارتباط فقلت: إذا كان مفهومه عن الحب كما ذكرت, إذاً هو لا يحبها, ولا يهمه أن يبقى متّشرباً بها، فكرّي معي ما هو دافعه لارتباطه بها دونك أنتِ؟ ومن خلال صمتها علمت كم هذا السؤال صعبٌ والأصعب منه هو الجواب عنه، لكنها أجابت: بأنه كان يحثني منذ بداية المرحلة الثانوية لدخول الجامعة ولم أستطع، ربّما كان هذا هو السبب، فسألتها إذاً هي جامعية؟ أجابت، لا موظفة على أساس الشهادة الإعدادية، فقلت: هذا الاحتمال أسقط نفسه بنفسه, مثله مثل الاحتمال الأول. بعد فترة صمت قالت: الآن استطيع أن أقول إنه استغل مشاعري كمراهقة فعندما كنت في المرحلة الثانوية كان متخرجاً ويعد أوراقه للسفر. وأقول إنه أحبّ حبّي له
ثم إنه لم يعدني يوماً بالارتباط، وربّما كنت احتياطا في الحب, فهو لم يبادلني هذا الحب, وفي نفس الوقت لا يريد أن يخسر حبّي له، فلم أزد على قولها قول.
الآن أعود إليه وإلى محبوبته الثانية، فقد تعرف عليها هناك، في ذاك البلد البعيد، حيث الوحدة والضجر والغربة, فكانت له الجليس والأنيس والوطن. هي فتاة مختلفة الثقافة والبيئة والمنشأ، مختلفة القومية والمذهب، ومختلفة اللغة والانتماء، وضرب هو بعرض الحائط كل النداءات والاستنكارات وقاوم أهله ومجتمعه، وفعلت هي كما فعل هو, قاومت أهلها ومجتمعها.. إذاً هو الحب، الحب الذي ليس له حدود تحدّه، وتلك نداءات القلب التي لا تعرف حواجز فتقف عندها، ولا ننسى المشاعر العصية عن الوصف.. ارتبطا وسافرا خارج حدود وطنه ووطنها، من أجل تحسين الوضع المادي، وما هو همه؟ وما هو همها؟ طالما أن كلٍ منهما وطنه معه, هو معها, وهي معه. أنجبا الولد الأول والثاني والثالث، أما اسم الولد الأول، فكان دليلا على انتماءه واصالته. وأما اسم الولد الثاني، فكان دليلاً على محبته لأهله وتعلقه بمجتمعه وأخيراً اسم الولد الثالث، فكان رمزاً يدل على هويتها وقوميّتها، وانظر إلى هذا التطرف بالزواج، وانظر إلى التشبث بالأصول والقيم، وأقول في نفسي، نعم إنه الحب! الحب الذي يزرعه الإله فينا دون أن يكون لنا سلطان عليه.
كبر الأولاد على الأقل الأول، إذاً يجب أن تعود هي وأولادها إلى وطنه من دونه ليتسنى لهؤلاء الأولاد الدخول في مدارس القطر وريّاضه، أما هو؟ يبقى ليُنهي عقد عمله، وسيأتي في كل عام لمدة شهر أو أكثر ثم يعود إلى عمله دونها ودون أطفاله، فقط، ريثما ينهي عقد عمله. وفعلاً هذا الذي حدث في كل الأعوام ما عدا العام الأخير الذي حدث أنه أخبرها وأخبر ذويه أنه قادمٌ غداً، وبما أنه سيأتي براً فلن يصل إلاّ في المساء، فأستعد الجميع منذ الصباح لاستقباله، أما هي فكان استعدادها مختلف بأنها في الصباح الباكر جمعت ما خفّ وزنه وغلا ثمنه وغادرت.. غادرت؟ غادرت إلى أين؟ غادرت إلى بلاد الله الواسعة، وهل ضاق عليها المكان؟، ومتى؟ وكيف اتخذت هذا القرار؟وما الذي حدث؟
نعم ضاق عليها المكان واتخذت هذا القرار في مساء ذاك الصباح، اشعلت شمعة صغيرة, فأضاءت المكان وعندها ايقنت شدة الظلام، اشعلت شمعة الفرار، لماذا؟ ما الذي حدث؟ لم يحدث شيء، لقد نسي أن يغلق الباب، نسي أن يغلق الباب؟ نعم فقط نسي, وتركه موارباً لدخول أخرى.. دخلت وبنفس القوة التي دخلت بها هي وربّما بشكل أعنف وأشد، أما هي فكانت تصرخ الصرخة تمزق صدور السامعين, وتقول: الويل لكم، إن من يقتل نفساً بغير حق كمن قتل الناس اجمعين. وأنتم قتلتموني وأطفالي من أجل ولدكم قطعت شراييني، تركت عملي، غادرت بلادي، ونسيت أهلي، ماذا فعلت لكم؟ ما ذنبي؟ لا أعجبكم؟ ولن أعجبكم كيفما أكون.. لم استطع أن أتحدث عربيتكم كما تتحدثون؟ أفلا تعرفون؟ لا أدين بدينكم ألا تفقهون؟
الويل لكم هل أجرمت لأنني أحببت ولدكم؟ فكيف لو أني كرهت؟ هل أذنبت بأن حملت أحفادكم بين ضلوعي؟ فكيف لو أنني ما كنت فعلت؟
وأصمّ أذنيه لنداءاتها والتي كانت لا, لا, لا تجدد العقد، لا نريد المال, انت من نريد، افتقدك كثيراً وأطفالك كذلك، ارجع إلى بلدك، مارس عملك، ربِ أطفالك، وأنا أتحمل الجميع من أجلك.. إلاّ أن هذه الصورة كانت بالنسبة له قاتمة، كيف ومحبوبته الجديدة؟ أيرجع وينساها؟ أينهي عقده ويخسر رؤياها؟ أيخرج من الجنة بعد أن فتحت أبوابها؟ كم عمر سيعيش، أيقضي بقية العمر على ذكراها؟ لا، سيجدد العقد وإن لم يفعل سيسافر إلى بلدٍ آخر، ويقول لها: إن شئت أن تبقي أبقي ولن ينقصك شيء، وترفع الصوت مجدداً، لا أريد شيئاً, أنت من أريد، وتبقى الصورة قاتمة في عينيه, حتى أنه لم يقدم لها حتى الوعود.
تسأل صديقي هل حسم الأمر على الهاتف؟ نعم حسم الأمر على الهاتف، حاورها أهل الخير، لكنها قالت: لقد أختل الميزان، إن سقط رفعته، وإن سقطت رفعني، أما الآن فقد سقطنا معاً، سقطت من الظلم، وسقط من الزهو، ثم إنه لا يريدني لنفسه, ولا يريد أن استقل بأطفالي, يريدني مع اسرته, وأنا لم أعد أقوى على الصمود.
صديقي، مرضت وسقمت ولم تذهب للطبيب، فبأيّ شيء ينفعها الطبيب؟ هل سيمنحها الأمل؟ أو يقول كلمة؟ أم يعطيها حبّة دواء؟ كلمة تحيي أو تميت، كلمة ترفع الضغط وأخرى تأتي بالجلطات, كلمة تسبب النوبات القلبية, وكلمة تدمر الأعصاب, وكلمة تبعث الحياة, أما حبّة الدواء فذات تأثير محدود، فهي مهدئات ولا تستطيع تجديد الطاقات. داءها ودواءها عند من يرفض أن يداويها.
ويأتي هو إلى الوطن ويترك الجديدة وطنه هناك، وهو وطنها وقد غادرته قبل وصوله، أنهى معاملة الطلاق وأغدق مالاً يفوق المال ليعوضها عما فقدت أو ليريح ضميره, أو ليكون ذلك شافعاً أمام أطفاله عندما يشبون ويسألون، وترك أطفاله بعهدة أبويه وغادر إلى عقده, وإلى الأخرى حسب قولها.
تسأل هل انتهت مهمته بتحميلهم أسماء؟ وماذا سيفعلون بها وبمستقبلهم دون أبوين؟ وتسأل هل هي سهولة الحياة؟ فكل ما يريده لا بدّ أن يتحقق، ام اضمحلال الذات، فهو ما زال يشعر بأنه طفل بين أبويه, ونسي بأنه هو من أصبح الاب لأولاده وأبويه.
أما هو فيقول: الأولى كانت مراهقة وقد تعلقت بي، وقد أفهمتها مراراً وتكراراً, بأنني لا أنوي الارتباط بها, ولكنها كانت متمسكة بفكرة الحب من أجل الحب، وكنت أكلمها عن علاقاتي الوهمية والحقيقية حتى لا يزهر أملها وكانت تستمع ولا تعترض, ولم استطع أن أقطع صِلاتي بها بحكم القرابة والجيرة, فكنت أصبّحها وأمسيّها وأواسيها, وعندما كانت تطلب شيئاً بالعلوم أعينها, وكنت واضحاً معها منذ اللحظة الأولى, هي قريبة وصديقة فقط، وقد قبلت، وسأكون أميناً مع نفسي فقد أحببتها كما أحبتني, لكنها خانتني قال: لتجعل أملها يزهر حتى في الرمال وبدون ماء, لجأت إلى الخديعة والنفاق.
صديقي، تسأل كيف؟ نعم سألته هذا السؤال فقال: رمت بشباكها على صديقي وحاولت إيقاعه, على مدى شهرين لإنشاء علاقة عاطفية معه، لا لأنها تحبه ولكن لكي تستفزني فيه, لكنه صدّها وأخبرني ما كان منها، وعندما سألتها قالت: نعم اعترف بأنني أخطأت وأحب أن تسامحني، فقلت لها: سامحتك، فقالت: أقسم أنك سامحتني, ولا أطلب إلاّ أن نعود أصدقاء. فأقسمت أنني سامحتها، وبهذا الذي فعلته ألغت الاحتمال الواحد بالألف.. ويتابع ويقول: أما الأخرى، فلو لم أحبها كنت أمضيت معها ما أمضيت، ولكنت تركتها عندما أتيت، لكنني أحببتها وبرضى الوالدين من أجلها ضحيت، أحببتها وتحديت العالم من أجلها, وجندت أسرتي لأن تقف جانبها، وأن يكونوا وطنها الذي انتزعت منه, لكنها لم تستطع أن تتأقلم، وكنت أقف إلى جانبها في حقها وباطلها, لكنها لم تفهم. رهنتُ عمري لإرضائها, لكنها لم ترضَ. تطلب الواحد من أيّ شيء, فأتيها بالعشرة، أجمع المال وتتفنن في تبديده, وشيء واحد يكرره لسانها، سأرحل، لا أحس بوجودي, لا أرى أفقا لمستقبلي، وعندما أسافر تتخيل أخرى. وأنا أداري وأكابر، هل أفقد زوجتي واستقرار أطفالي وسمعتي؟ أنا من تسبب في مجيئها، ومحبتي ودافعي الأخلاقي يجعلاني متمسكاً بها أكثر، أصبّرها ولا تصبر فماذا أفعل؟ وموشح الرحيل دوماً يتكرر، ففكرت لربّما تمسكي بها يجعل عنادها أكبر، فقلت: ارحلي، لكنها عندما سمعت هذا, زاد اصرارها على الرحيل ورحلت، مرّ زمن وطلبت العودة وعادت
فقلت:
عدت لبيتك وأطفالك فلست أنا من يهجر
لست أنا من يُمحى فأنا على محوك أقدر
لست أنا الذي تغادره زوجته حتى ساعة
مذ أدرتِ ظهرك تجاوزتِ الخط الأحمر
وقطعتِ شراييني ومن أوردتي قطعتِ الأبهر
لا تبرري, لا تبكي, لا تقولي قولاً ثم تقولي آخر
لستِ من ظُلم ونَفذَ, أنت مًنْ فكرَ ودبرَ ثم قرر
لا تقولي بحراً وأنهراً من الحب, ومن الشوق الكوثر
أقول: سيل جار، سيل جارف توقف وتقهقر
محيط تجمّد ومن كثرة الطعن تلوث وتعكّر
أحببتك كما أحببتِني وتعلقت بك كما تعلقتِ
لكن ألا ترين معي، أن الذي بين الضلوع قد تهشم وتكسر
لك بيتك, أطفالك, مصاريفك, أما أنا فحلم تبخّر
لكن موشح الرحيل عاد إلى شفاهها أورق ثم أثمر
فقلت لها أبني لك بيتاً في أيّ مكان تشائين وربي أطفالك. قالت: لا أحس بوجودي دونك, إما جميعنا وإلا سأرحل، ورحلت غير آسفة، وغير آسف إلاّ على أطفالٍ دون أبويها تكبر، لكن اأاولى عندما سمعت هذا الكلام قالت: كيف تجرأ وقال خانتني؟ وبماذا يعنيني؟ وبماذا أعنيه؟ ومَنْ يظن نفسه؟ لا يريدني له ولا يريدني لآخر؟ هل نحن في زمن الرق والعبيد؟ أما زوجته فقالت: ماذا؟ حلّم تبخر! هل صدّق نفسه؟ لم لا يقول كابوس وشظية في المحجر؟ وهل صدّقتم قوله، لو لم تكن أخرى لماذا أترك بيتي وأطفالي؟ لو لم تكن هناك أخرى إذاً لماذا يجدد العقد؟ ولماذا سيسافر إلى بلد آخر؟ لكنه عندما سمع ما قالتا, قال ماذا قال؟ لا أدري جدل يطول ويطول والكل يدّعي أن الحق معه، وكأن الحق دمية يستحوزها كل مَنْ يريد, إلاّ صاحبها فبالنسبة له حلّم بعيد.
صديقي:
أسألك لو كنت قاض كيف تتصرف؟ وإن كنت أنت كيف تتدبّر؟ أما أنا فأرى إنها الحياة التي تفاجئنا بما يحدث وقد يتكرر، وهنا نرى عكس العكس، فالأصل أن نبحث عن الشريك, ثم نبحث عن صنع أشياء مشتركة, ونعزز الأشياء المشتركة لإبقاء الشريك قريباً منا، أما العكس يكون أنه من أجل هذه الاشياء نبحث عن الشريك، أما في هذه الحالة التضحية بالأشياء المشتركة والشريك من أجل شريك،
وهذا إما من قّلة الوعي أومن عدم احتمال الحياة وعدم معرفة التعامل معها.. وهنا نرى عكس العكس دون العودة للأصل.