اللوحة: الفنان السويسري ألبرت أنكر
«و كأن على رؤوسهم طير»
لا شكّ أن الذي أتى بهذا القول لم يكن يعرف رهبة الامتحانات الجامعيّة، فلشاشات الحواسيب فعلٌ يفوق كاريزما الطّيور في عالمنا المعدنيّ الذي بدَأَت تجتاحُه أليافٌ ضوئيَّةٌ تطوّق فضاءات الخيال وتحصرها في بوتقةٍ افتراضيَّةٍ تملي مقاييسها دبّابات تفكيريّة تقود عمليّة الغزو الفكريّ عبر شبكات التّواصل الاجتماعيّ.
كان قد دأب على طمأنتهم طوال الأسابيع الماضية على أن الامتحان هو لتأكيد جودة ما حقّقوه من اكتسابات في الصّف، وعبر التّحضير المسبق، وليس مناسبة لإظهار الفشل، بل لتأكيد النّجاح. كلّ هذا كان بلا قيمة أمام رهبة الامتحان، هذا النَّشاط الاجتماعي الذي ربطه الفكر العربي بالقول إنَّ “يوم الامتحان يُكرم المرء أو يهان”… وكأنّ هناك مُدرّسًا يسعى لإهانة أحد طلّابه!
لم يكن ذلك في الحدود المنظورة لمساحة التّحضير لأسئلة الامتحان، كان يتوق لأن يرى الجميع وقد أتمّوا مهمّتهم بنجاح وإن كان عامل الوقت ساعَةَ الامتحان هو العامل الأظلم في التّقييم بحسب رأيه. فالإنجاز يمتدّ على مساحة العمر وليس أسيرَ ساعة في مبنى الجامعة
Every one logged in? Let’s start. Any word or infringement will be graded as incomplete
بادرتهم المسؤولة عن الشُّؤون الدراسيَّة بنبرةٍ حازمةٍ تليق بمقام الامتحان ورهبته.
كان لانفراج أسارير الطلاب لدى مطالعتهم الأسئلة وقع طيّب لديه، «الحمدالله! شكلهم دارسين» كانت أوّل فكرةٍ تبادرت إلى ذهنه، إنهم أطباء مستقبلٍ كان هو قلقًا بشأنه، فكيف باليافعين الذين لم يعُوا بعد تقلُّبات هذا الكوكب الغريب العجيب في زمن بات يشابه نهاية الأزمنة. مجرّدُ بضعةِ أسئلةٍ ترسم بداية طريقٍ طويلٍ لناشئةٍ في وطن يكثر حولَه الحاقدون من أبناء جلدته، وينسى الجميع شهادةَ ستة آلاف سنة على معدن هذا الوطن.
لم يحتَج لأن يُصمِت هذا ولا أن ينبّه تلك، فطلَّاب هذا العام كانوا برصانةٍ تفوق الجيل الذي خربته جائحة الكورونا وعالمها الافتراضي الذي جعل من التَّعليم تهريجًا من خلف الشاشات، لا ينتج عنه شحذ فكر ولا استقامة رأي.
أخذ يذرع الغرفة ذهابًا وإيابًا موزّعًا نظراته على الطّلاب بحثًا عن قانص معلومةٍ من شاشة جارةٍ أو متبادل نظرةٍ مع طالب في المقلب الآخر من الغرفة فلم تعثر نظراته بأيّة شائبة فاطمأنّ إلى خامة المُمتَحَنين وإن لبرهةٍ من الزّمن.. كان انتقى الأسئلة بعنايةٍ وأعاد صياغتها لتتناسب وما قام الطّلّاب بدرسه في البيت وبمناقشته في الصّف.
كان اختبار التّعليم في السّنتين الأخيرتين مختلفًا عمّا عهده، وما اختبره إن في سنواته الدّراسيّة أو في السّنوات التي لحقت وكان فيها مدرِّسًّا في مادّة اختصاصه النّادرة، فالجامعة الجديدة كانت قد قرّرت اعتناق الوسائل التّعليميّة الحديثة من نظام التّعليم المختلط والصّفوف المنعكسة ونظام تعليم المجموعات والتّعليم التّفاعليّ وسواها من المناهج التي تسعى إلى إضفاء وجهٍ مقبولٍ إعلاميًّا لمفهوم الدّرس عند جيل جَنَحت سُفُنُه بعيدًا عن شواطئ القرن الماضي، فما عاد مقبولًا لديه أن يستمع إلى محاضرةٍ من شخصٍ تمرّس في المادّة. فبات الطّالب يصبو إلى ارتقاء منصّة النّقاش من أوّل الطّريق.
قد يرفض الكثيرون هذه الفكرة للوهلة الأولى ولكن عند مطالعة متغيّرات هذا الجيل ندرك أنّ أبناء اليوم قد بلغوا باكرًا في مقاييس المجتمع، وقذفت بهم شبكات المعلوماتيّة عشوائيًّا في مختلف متاهات المعرفة، فباتوا يعرفون دون أن يدركوا، وغاب عن بالهم تحذير أطلقه الرّحبانيّان في مسرحيّة «بترا»: «المعرفة المبكّرة تهجّر الطّفولة» فتهجّرت لدى هذا الجيل كفاءة السّعي إلى المعلومة، وبات الوصول إليها بسهولةٍ، يليه ابتلاع دون مضغٍ؛ فيأتي امتصاص المعلومة مُنتَقَصًا ولا يعمِّرُ في الفكر طويلًا.
ربعٍ ساعةٍ مضت ولم يسمع بعد أي تأفّفٍ من الطّلّاب، الأمور تسير على ما يرام وتؤكّد ذلك الإجابات التي كان يقتنِصها بطرف عينيه من الشَّاشات التي ترصد الوقت بشكلٍ تنازليّ مزعجٍ مُوَتّرٍ جعله يحنّ إلى زمن أوراقٍ ملموسةٍ كانت تُقلق أرواح الطّلاب لدقائق قبل التّوزيع، في زمن كانت فيه مساحة التّركيز أوسع من شاشة حاسوبٍ وأطول من دقيقتين يفرضهما تطبيق برمجيّ.
ثلاثون دقيقةً مضت وإذ بأوّل الطّلاب يغادر القاعة بعد إطفائه شاشة الحاسوب معلنًا إنجازه الإختبار، دقائق وتلاه ثلاثةٌ آخرون. «لم أعطِ أسئلةً بهذه السّهولة» ساوره خاطر غريبٍ، «الأرجح أنهم درسوا جيّدًا» طمأن نفسه وهو يتابع مراقبة سائر الطلاب الرّاكنين إلى كراسيهم يحدّقون بظهورٍ مستقيمةٍ إلى الشّاشات، عكس ما كان يفعله أهلهم الذين كانوا يحدودبون فوق مسابقات الامتحان، حافظين نتاجهم من كلّ عينٍ غريبة بينما يتبحّرون في كلمات يحمل فكّ ألغازها مفاتيح النّجاح.
مع مرور الدّقائق كانت مساحة الغرفة تتّسع وأضواء الشاشات تخبو منذرةً بقرب انتهاء الوقت، واقتراب ساعة الحقيقة للسّائل والمسؤول، ليُدرك كلّ منهما إن كان قد أتمّ واجبه على أكمل وجه أم لديه المزيد ليعكف على تحسينه.
