اللوحة: الفنان الأميركي أليكسندر أرشانسكي
في كتابه “غَرق الحضارات”، يتحدث “أمين معلوف” بحنين عن مصر، حيث هاجر من لبنان مع أسرته المسيحية إلى مصر، وعاش فيها سِنينا خَبِرَ فيها قوة مصر التي يتحدث عنْ سرها في كتابه، بعد رحيل الاستعمار الانجليزي صَدرت قرارات التأميم العشوائي القاسي والحقود، ثم هب مناخ يُخيف ويرهب كل أجنبي، وفَرَّ أمين معلوف وأسرته وباعوا ممتلكاتهم بمصر بثمن زهيد.
لو قارنَّا بين مصر اليوم ومصر الأمس لوجدنا الفارق هائل، كالفرق بين الحياة والسكون أو البريق والانطفاء، فكيف حدث هذا؟
مصر في مناخ الاستعمار البريطاني كانت تجمع خلاصة شعوب العالم، يكفي أنْ تقرأ أسماء العاملين بأي فيلم عربي في الأربعينيات، سوف تجد جنسيات من مختلف بلاد العالم، وهؤلاء الأجانب كانوا يسكنون مصر ويشتغلون فيها وينسجمون مع أهلها، ومن يقرأ مذكرات كثير من المصريين يجد كثيرا من الأحداث يتضمنها أجانب، ويرجع لهذا الفضل في أنَّ مصر كان بها فرق مسرحية وغنائية، وصناعة سينما ومسرح، ومحال تجارية أجنبية، وبنوك وتعاملات من كل صنف، فمصر كانت بلدا عالمية، وتنوع الأعراق يُثري البلد ويدفعها للأمام في كل اتجاه.
ولهذا فمصر رغم الاحتلال كانت حلما لكل الناس، صحف وشعراء ومفكرين ورجال أعمال وساسة وعلماء وفنانين، كم تَمَنَّى غاندي أن يلتقي برجال مصر وأنْ تنال بلاده مكاسب الوفد مع الإنجليز، يُشبِّه “معلوف” مصر الأمس، بالولايات المتحدة الأمريكية في تنوعها، فأمريكا على قمة العالم بالخِبرات، وفيها من كل بلاد العالم ممن جذبهم الفردوس الأمريكي.
نالت مصر بالتنوع تلك المكانة وذلك الثراء، ثم أصبحت مصر متعصبة وجامدة الفكر وتميل للتفرد بالمصريين، فهرب الجميع وأصبحت البلد وحيدة النوع والعاطفة والفِكر والهَوية، وتزايد الميل للتجزؤ والانشطار، حتى المكوّن الثنائي المصري من المسلمين والمسيحيين لم يعد كما كان بالأمس، فَقَدَ كلاهما البريق والحَماس لبلدهم المشترك، فقد تقدمت الهوية الدينية على كل شيء، فشعر كلاهما بالغربة ولم يعد لأحد نفسية للإنجاز، وأصبح هَمّ كل طائفة البقاء حتى يفرجها الله، وأصبحت الحياة في فم الجميع منزوعة الدسم.
عندما أتخيل المجتمع الأحادي وقضبانه الصارمة التي لا ترحم، أراه مجتمعاً من الدجاج المتشابه الذي يسير في تشكيلات تشبه خطوط الإنتاج في المصنع، كل الناس يعملون ويفكرون ويشعرون ويَحِسّون مثل كل الناس! أعتقد أنَّ أكثر بلوى يبتلى بها مجتمع هو أن يكون لونا واحدا، المجتمع الذي أغلب أفراده أشرار لا بد أن يكون مجتمعا فاشلا.. المجتمع الذي أغلب أفراده أخيار لا بد أن يكون مجتمعا فاشلا أيضاً، وإلا كانت ارادة الله وحكمته أن ينشئ تلك المدينة الفاضلة، ولسمح بهبوط آدم للأرض وحده ولم يسمح لإبليس!
المدينة الفاضلة والمدينة الشريرة لم يسمح الله بهما على الأرض، الأسرة التي كل أفرادها برأي واحد حتما هي أسرة فاشلة، الاختلاف هو سنة الله في بني آدم.
“وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ۖ وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ، إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ ۚ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ“ هود (118)
من “المختلفين” الذكر والأنثى تنشأ الأسرة وتنتج المَوَدَّة والسَكَن والتناسل وتستمر الحياة، من الأبيض والأسود وبقية ألوان الطيف تتشكل لوحة الحياة، وكلما زادت تفاصيل ألوان الطيف كلما امتلأت بكل أسباب الحياة والبريق والازدهار.. فلماذا نَضيق بالاختلاف ونحلم بالتطابق؟
نحن نحلم الحلم الخطأ.. الحلم الفاشل.. الحلم المُهلك.. الحلم الضال. البلد التي بها أديان مختلفة وأعراق مختلفة هي أكثر البلاد المرشَّحة للنهضة السريعة، شرط أن تكون خالية من الفكرة الطائفية المتعصبة والمغرورة والنافرة من الآخر.
البلد التي بها دين واحد ومذهب واحد وعِرق واحد لا بد لها من التعرّف على كل الأعراق خارجها، والا وقعت في الواقع العربي الذي يرفض المختلف ويتمنى زواله ويُشيْطِنه.
