كف عدس

كف عدس

هيام علي الجاويش

اللوحة: الفنان البلجيكي جان فرانسوا بورتال 

صديقي.. ما أشبه اليوم بالبارحة، وربمّا يأتي يوم نستغني فيه عن اليوم ونستقرئ ونقول: ما أشبه الغد بالبارحة، لذلك لابأس في أن نأخذ مثلا شعبيا لنسقطه على بعض ما نحن فيه، ولكن في البدء ليس هناك ضير أن أذكر لك بإيجاز قصة ذلك المثل الشعبي (كف عدس).

في ليلة من ليالي الصيف في قرية صغيرة, في موسم جمع الغلال على البيادر، وبعد أن هدأ جميع مَنْ يعمل على البيادر.. كلّ على بيدره، تسلّل أحد العاشقين للقاء عشيقته التي لاقته على أطراف بيدرها وراء أحد أكوام الغلال, غير بعيدة عن زوجها بعد تأكدها من نومه، إلاّ أن الزوج استيقظ، ولبساطته ناداها، والعشيق لغبائه فرّ هارباً بدل أن يمكث في مكانه ريثما يتسنى له التسلل، فما كان من الزوج إلاّ أن لحق به.. الأول يركض والآخر يركض وراءه إلى أن استيقظ بعض النيام على البيادر وطوقوا هذا الفار وتجمعوا حوله وفي تلك اللحظة وصل الزوج, فنظر الجميع إليهما وتساءلوا عن الخطب، ففتح العاشق كفه وذرّ حفنة من العدس كان قد التقطها أثناء جرية من أحدى البيادر قائلاً: يلعلن ابو هذا العمر كل هذا من أجل حفنة عدس؟ لم أعد أريدها، فنظر الجميع إلى الزوج باستغراب أمن أجل حفنة عدس كل هذا الجري وهذه الملاحقة؟ فقال الزوج: اللي يدري يدري واللي ما يدري بيقول كف مدري.

صديقي.. إنها هبة.. زميلاتها في عملها المؤقت وفي معظم أحاديثهن والتي تتناول قضاياهنّ العائلية أو غيرها وكانت معظمها للنيل من أزواجهن وتصوير أنفسهن بموقع الضحية وأيضاً للتقليل من شأنها وللنيل منها، يقلنّ: أنت ماذا حققت مقارنة بالذي قدّم لك؟ فأنت وضعك مختلف.. أو طبعاّ أنت تختلفين فزوجك متعلم أو زوجك متفهم.. أو زوجك مثقّف.. أو زوجك يحبك.. وكل هذا كان بدافع الغيرة لأن أيّا منهن لم تحظى به أو لم تحظى بزوج يماثله، فتختصر الكلام بقولها: الحمد لله، طبعاً يساعدني ويقف إلى جانبي في كلّ قضية، وقد استطاع أن يؤمن لي هذا العقد، ووعدني أن يجدده في هذا العمل أو في عمل آخر، ليس لحاجة والحمد لله, إنما نزولاً عند رغبتي، وقد يؤمن لي عملاً دائماً، هو وعدني بذلك, وعندما يعد يفي، ثم إن زواجنا أتى بعد علاقة حب طويله, ونعيش حياتنا بكل تفاصيلها الممتعة، أما في داخلها فكانت تقول: كف عدس.

وعند كلّ أزمة كانت تحاكم نفسها وتسأل عن الأسباب؟ وتعود بها الذاكرة إلى أيام العشق تارة وإلى طفولتها تارة أخرى، وتدخل بجسدها الصغير وسط دموعها متفحّصة أمها متفقّدة أيّاها، بعد صراخ ومعركة عنيفة بين أبيها وأمها، وتنظر الصغيرة إلى أمها متوقعة أن تجدها مشطورة أو بدون ذراعين أو قدمين أو رأس وإلاّ ما معنى كلام أبيها: ليش أنت إلك رأي هو أنت شقفة مرى؟ وتندّس الصغيرة في حضن أمها وتتساءل عن سبب دموعها، طالما لم تفقد شيئا من جسدها،ها هي مرّت الأيام ونسيت الموضوع برمّته, لكن زوجها هو منْ ذكّرها بتلك الحادثة، إذاً بدأ التاريخ يعيد نفسه معها ومع زوجها, وكم كانت أحاسيسها مؤلمة! الآن فهمت دموع أمها، وفهمت كم كانت أمها تُقدّ من الصبر، وتساءلت هل أنوثتها تهمة؟ وهل عليها أن تكون رجلاً؟ وهل يمكنها أن تصبح رجلاً أم عليها أن تتحلى بصفات الرجال؟ أتفقد أنوثتها لتنعت بصفة أبشع؟ وهل يقبلها هو إذا كانت رجلا؟ وما حاجته بها عندئذٍ أو هل يقبلها إذا كانت (مسترجلة)؟ أم هي عبارة للإهانة فقط؟

عبارة ليهرب من مأزق ما فقط عندما يكون الحق معها وما أكثر تلك المآزق! لكن هل يمكن للكرة الأرضية أن تكون كرة أرضية بدون قطبيها؟ وهل يمكن للكهرباء أن تكون كهرباء بدون سالبها وموجبها؟ وهل يمكن للمغناطيس أن يكون بدون شماله وجنوبه؟ وهل يمكن للحياة أن تستمر بدون ماء؟ وهل يمكن للماء أن يكون بغير سالبه وموجبه؟هيدروجينه واكسجينه؟ أي الذكر والأنثى، وهل يمكن للزوجين إلاّ أن يكونا ذكرٌ وأنثى؟ وهل يمكن للطائر أن ينهض بغير يمينه ويساره؟ أو للمجتمع بغير رجلٍ وامرأةٍ؟ فإذا كان الرجل أحد جناحي المجتمع فلماذا يحاول كسر الجناح الآخر؟ وهو يعلم علم اليقين بأنه لا يستطيع الطيران بدون جناحه الآخر، كما أن الرجل يعلم علم اليقين بأنه لا يستطيع الاستغناء عن المرأة والعيش بدونها. 

ما بال الرجل يفضّل أن يستحوذ على المرأة ويمتلكها ويتحكّم بها أكثر من العيش إلى جانبها، هل يخشى أن تأخذ دوره وتسحب السلطة منه؟ وهنا تيّقظت وتذكّرت كلام أمها: المرأة جناح مكسور، إذاً كانت أمها على حقّ؟ وعادت بها الذاكرة المرهقة إلى أيام العشق حيث اتصلت بصديقتها ليلى لتكلمها عن حبيبها، لكن هذه الأخرى قالت: سأكلمك عندما انتهي من عملي فقالت هيا: لا تقولي أنك تمحين فردت الأخرى قائلة: هو كذلك.. فإن تركت أثرا عاد وتجذر وأغلقت السماعة.

صديقي سأعلمك بقصة المحو هذه، لقد كان لهيا صديقة متزوجة من رجل أحبته لسنوات، ثم ارتبطت به، لكن بعد انقضاء أسبوع العسل، نعم.. نعم لا تستغرب أسبوع فقط لا غير، دخلا في روتين الحياة وهموم المصاريف ومجاملة الأقرباء وتحمل الزوار و.. و.. وبعد أن تعوّد على وجودها وأصبحت من أساس بيته ومقتنياته، لمْ تعد تشغله ولم يعد يهتم لرأيها أو لمشاعرها، ولم يعد يكترث لرغباتها أو مطالبها، وكانت في كلّ مرّة تفاجأ بإهماله وقلة اهتمامه، وأصبح الحال مع مرور الأيام مجرد خدمات نهارية وليلية.

المفارقة أنه كثير الخروج من البيت وكثير التنقل وعندما يعود يكون متلهفاً للتلفاز، يتابع كلّ ما يعرض من إعلان البسكويت والعلكة إلى الأخبار، والويل لها إذا شغلته عن سماع كلمة في برنامج يتابعه، أما إذا طالبته بنزهة أو بشراء شيء لا يحبه أو لا يملك ثمنه أو غير مقتنع به يرد بنوع من السخرية: هذه أمور تافهة ما لها لزوم، وعندما تقول له: لماذا تعتبرها تافهة وأنت لديك منها؟ فيقول: أنا غير، وبما أن الأمر لم يرق لها أو لم تستطع التحمّل، بدأت بالتذمر والتأفف وطالبت بحقوقها، وبدأت المشاكل، وبما أنه لا يوجد حلّ لهذه المشاكل، قامت برسم شكل يمثّل زوجها، وأشكالاً أخرى مرافقة تمثّل بعض أجهزته الداخلية كالقلب واللسان و.. و.. و حتى أعصابه، وعندما كان يسوءها شيء من زوجها تقوم بمحو المنطقة أو العضو الذي تلقت منه الإساءة، وبهذه الحالة تصالحت مع ذاتها، فهي لم تعد تهتم أو تكترث مهما صدر من هذا العضو لأن هذا العضو غير موجود بالنسبة لها تماماً كما على الورق بعد محيه. وأول شيء محته كان ذراعيه، فكيف تطوّقانها نفس الذراعين اللتان قامتا بضربها؟ 

عندما أتمت المحو لم تعد تلك الذراعان تعنيان لها شيئاً أن ضماها أو ضرباها، أتدري صديقي ماذا محت أيضاً؟ لن تصدق لقد محت صوته، كيف؟ لا أدري كيف رسمت صوته وكيف محته، وعندما سألتها هبة كيف ستتعاملين معه؟ 

قالت لها: أتعامل معه عادي، أقوم بكلّ واجباتي دون أن يطلبها، وإذا طلب شيئاً ألبّيه له دون نقاش وأتعامل مع صوته كأنه قادم من مذياع فلا يحزنني سماعه ولا يسعدني، فسألتها هبة: هو، كيف يتعامل مع الأمر؟ أجابتها: هو يظن بأنني اقتنعت أو أنه أحكم السيطرة، وهو فعلاً أحكم السيطرة، ولكن بثمنٍ غالٍ لا يدرك أنه دفعه.

أما متى تتخذ القرار بمحو عضوٍ ما.. فلذلك ترتيب مختلف، لقد عمدت لرسم شكل لها وأشكال أخرى لكلّ الأعضاء الأخرى الملحقة مثل الذي رسمتها له، وقامت بتقسيمها إلى سنتيمتراتٍ مربعة، وكانت عند كل موقف أو مشكلة أو كلمة تؤذيها تضع دبوساً واحداً في سنتيمتراً واحداً في العضو المناسب لها وعندما تمتلئ جميع سنتيمترات العضو بالدبابيس وتشعر بأن الدبابيس تخرز عضوها ولم تعد تطيق صبراً عليها، عندها فقط تريح عضوها، عندما تقوم بمحي العضو المشابه عنده، عاودت تلك الصديقة الاتصال بهبة، ضحكت هبة كثيراً وسألتها قائلة: ماذا كنت تمحين هذه المرّة؟ وهل أزلتِ الأثر كي لا يعود ويتجذر؟ ردّت عليها: الذي كنت أمحوه هو نفس الذي كنت أمحوه في المرّة السابقة كنت أمحو لسانه، وبما أنني كنت قد تركت أثر في المرّة السابقة فقد عاد وتجذر وأصبح المحو عندي صعباً على الورق وفي نفسي أصعب، أيّ أعطتيه فرصة أخرى والفرصة تلتها فرصة وهكذا.

سألتها هبة ماذا لو استحق المحو بكليته؟ قالت: سأمحوه، سألت هبة: عندها ماذا ستفعلين؟ فردّت.. لا, لا شيء عندها يكون قد مات بالنسبة لي أن بقيت معه أو لم أبقَ.، لكن هبة ردّت بحزم وثقة بأن المرأة هي المحرّك وهي أيّ هبة عندما تتزوج من حبيبها ستثبت هذا لكلّ الناس متّهمة صديقتها باليائسة والمستسلمة والمنهزمة، فردّت عليها تلك الصديقة المفجوعة بزوجها والتي تُزيل كلّ يوم شيئاً جديداً منه قائلة: (الله يوفقك إذا عشنا منشوف)، ثم تعود لطفولتها وأمها تارة, وتارة أخرى لصباها وصديقتها، وتساءلت أيّ الأمرين أقل مراراً؟ أتنكسر وتصبر كأمها؟ أم تصبر ولا تنكسر ــ أيّ تمحو ــ كصديقتها؟ وهي التي حاولت الأمرين ولم تفلح، فعندما أرادت أن تكون كأمها رأت أنها لا تستطيع أن تنكسر وتصبر 

لقد كانت تصبر على كلّ شيء لا يرافقه انكسار لأن الانكسار كان يفقدها الصبر، وعندما أرادت أن تكون كصديقتها رأت أنها لا تستطيع أن تصبر ولا تنكسر، لأن الصبر لا بد أن يرافقه انكسار، ولأنها أشفقت على نفسها من قصة المحو هذه، فهل عليها أن تعيش مع أحياءَ أمواتٍ مزعجون؟

لكن صديقي ما هذا الوضع وإلى متى سيستمر؟ وهل هناك بارقة أملٍ بالتغيير طالما أن الأيام تكرّر بعضها كالساعات الجدارية والتاريخ يعيد نفسه كالتقويم أن كان هجرياً أو ميلادياً، وتزداد شراسة الرجل كلما زاد تطور المرأة, خوفاً على هيبته وسلطته، والمرأة تزداد ظلماً وقهراً كلما تعلّمت وتثقفت؟

صديقي دعني أسأل.. لماذا لا يكون كلّ منهما سنداً للآخر؟ ولماذا لا يريد من شريكته أن تكون شريكته؟ يريدها تابعا له وبشروطه، كأنه يريدها كظله الخانع: امشِ خلفي أيها الظل.. لا يمكنك أن تكون أمامي حتى لو كانت الشمس في ظهري

ولا إلى جانبي حتى لو أراد القمر ذلك، انتظرني هنا سأعود بعد ساعة، ألا تستطيع أن تمشي فوقي وتظللني؟ إذاً هيا اتبعني يا ظلي.. لا, لا تعترض ليس لك علاقة بالشمس أو القمر, أنا شمسك وقمرك.. أنا فقط.

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.