مسارات صناعية مُهلكة.. ضَخُّ التديّن في السياسة

مسارات صناعية مُهلكة.. ضَخُّ التديّن في السياسة

اللوحة: الفنان العراقي سيروان باران

«لا تتدخل في مسار الأشياء، يسد النظام من تلقاء ذاته» – الحكيم الصيني لاو تسو

في ليلة مظلمة وعلى غفلة يَضع شخص شرير حجرا في طريق الفيل السائر في أمان وسلام، فيتعثر ويهوي مُرتطما بالأرض التي تضطرب تحته، فيفقد الوعي وتنزف دماؤه، ولو كان مع الفيل مصباح أو صاحب رشيد، ولو كان الفيل محترسا، لانتبه لأحجار الطريق وواصل سيره، وعثرة الشعوب والدول مثل عثرة الأفيال الضخمة، يكون عنيفا وداميا وعسيرا إلى أن تُشفَى جراحها أو أن تواصل سيرها.

فالتدخل الصناعي في مسارات الدول وأفكار الشعوب، عادة ما يكون عنيفاً وخبيثاً، يُشوّه الحياة ويَبتلي الشعوب والبلاد، ولو تُركت الشعوب دون تدخل شرير لتقدمت وأبدعت.

هُزِمت مصر والعرب في حرب 1967م، احتلت إسرائيل أكثر من ثلاثة أضعاف مساحتها التي كانت عليها، الإهانة لا مثيل لها، وسقط الغرور من سمائه، ولم نقذف إسرائيل في البحر ولكن تلطخنا بعار عالمي يفوق الخيال، وبعد أنْ كان الدعم المعنوي للجنود بحفلات ترفيهية تُحييها راقصات كما في الصور الشهيرة، حل مكانه التوجيه الديني من الأزهر والكنيسة، حتى أثمر نصر أكتوبر عام 1973م، والذي انطلق مع صيحة الله أكبر.

في تلك اللحظة أصبح بديهيا لدى الشعوب العربية أنَّ الدين هو الذي سيتصدر، يأخذ مكان شعارات القومية والناصرية والعروبة والشيوعية.

وكان المتوقع أنَّ الثمرة الطبيعية هي صعود مُنْحنى الأخلاق والانسجام بين المصريين، ويبدأ المصريون مسار الحياة الكريمة والناجحة، فمسار الدين لا يمكن أن يأتي إلا بالخير.

ولكن الدين سُلطة شعبية، والسلطة لا بد أن تُستعمل بعناية ووعي ونِية سليمة، ولم يدعه الأشرار يسير مثل الأنهار في جَرَيانه، بل حَقَنوه بما كدَّر على المصريين والعرب كل شيء.

الإسلاميون والآخرون.. صراع الديوك

واجه السادات في بداية حكمه مُعارضة قوية ممن كانوا يطمعون في أن يكونوا خلفاء لناصر، هداه تفكيره لفكرة شديدة الخطورة، أخرج الإسلاميين من السجون التي مكثوا فيها سنينا طويلة بلا أمل في الحرية، هذا القرار في حد ذاته عملا طيبا، فالحرية من حق الجميع، ثم أطلق يدهم في نشر أفكارهم الدينية والأيدلوجية في الجامعات والمؤسسات والمدارس وكل مكان.. والمصريون متدينون بطبعهم ويُقَدّمون الدين على كل شيء؛ فتراجعت بسهولة كل التيارات الأخرى، وضعف خُصوم السادات وتغلب عليهم بفضل الإسلاميين، وكان خطأ الإسلاميين هو الإقصاء، نظرا لأنهم نظروا للآخر خلال عدسة العقيدة والفكر، وهذا المنظور يجلب الاتهام في إيمان ونية الآخر، لم ينظروا إلى أنَّ لكل تيار أهدافاً نبيلة وأفكاراً مشتركة مع الجميع، فقد كانت “الحرية وطيب العيش والعدالة والمساواة والشفافية “من أهداف الجميع، وهذه الأهداف تكفي كبداية قوية للعمل المشترك، ولكن الفخ الذي دائما تقع فيه الجماعات الدينية هو الخضوع لشهوة إزالة المنافِس باستخدام اللسان والوازع الديني، ثم تخلو الساحة لهم، ثم يكونوا صيدا سهلا لمن أطلق سراحهم.

ومنذ تلك اللحظة زُرِعت ونبتت بذرة الحساسية العميقة بين التيارات الدينية وبقية التيارات والأفكار الأخرى، وأصبحت العلاقة بينهم كصراع الديوك، صراع نفسي أكثر منه فكري، وانقسم الشعب الانقسام الأول الحاد؛ إسلاميون في مواجهة “علمانيين، ناصريين، يساريين، قوميين، ليبراليين.. الخ” صراع نفسي وثأري وحَقود، ومازال يشتعل ويشتغل إلى اليوم.

ولو انتبه الإسلاميون إلى أنَّ الإسلام يَحَضّ على الوحدة ويَبْغض الفرقة ويدعوا للتعاون على المشترك، لكانت النتيجة هي الانسجام والصالح للجميع، ولكن للأسف ضيَّعوا الفرصة.

الهوية الدينية المتعصبة

تُركت المساجد للإسلاميين، وهنا حدثت الفوضى، فخرج التراث عشوائيا من أبواق المساجد وخُطب الجمعة، والمساجد كثيرة والخطباء حديثو التدين وساذجون وبلا خبرة، يملكون فقط الحماس الديني والتراث في الكتب، وانطلقت أبواق المساجد بحكايات عن النصارى، واخترقت الكلمات آذان المسيحيين، وأدركوا لأول مرة أنَّ أسمهم النصارى وليس المسيحيين، وسمعوا القصص عن الصليبيين ولم يستطيعوا تجاهل سهام اللعنات والدعوات التي تنطلق من الميكروفونات، الخطيب يقول اللهم العن اليهود والنصارى، وتساءلوا! هذه لعنات ضد من؟ وتكلم المتدينون وكأنهم وحدهم في البلاد، لا مراعاة لطائفة دينية سكنت مصر منذ قرون طويلة قبل أن يدخلها الإسلام، وانتشرت الشائعات صارخة بالتحذير من الأطباء النصارى الذين يقومون بجعل المرأة المسلمة عاقرا حتى لا يتكاثروا، ودعوات بالحرص على أن يقع القِرش في يد المسلم، فانكمش المسيحيون، ولجأوا للكنيسة يتكوَّمون حولها ويلتصقون بها، وتلقوا الخُطب المضادة التي تزرع فيهم قناعة أنَّهم أصل مصر وأنَّ من فيها من المسلمين ضيوف عليها، وزادت المسافة بين الجزيرتين المسلمة والمسيحية، وتصدَّرت الهوية الدينية المتعصبة على الهوية الجامعة، وهي الوطن والمواطنة، ووقع الفريقان في الخطأ الذي لا يسهل تداركه، هنا حدث التشوه الثاني لمسار وأداة الدين، حيث أصبح سهما في جسد الوحدة الوطنية.

فخ أفغانستان

حين حدث الغزو الروسي لأفغانستان عام 1979م، طلبت أمريكا من العرب والرئيس السادات، حثّ الشباب على الحرب في أفغانستان، وأنْ يشتغل كل الإعلام لترويج فتوى “أنّ من واجبات المسلم حين يحصل اعتداء على أي دولة إسلامية أن يَهبّ للدفاع عنها”، وأتذكر مشهدين لم يغادرا ذاكرتي:

الأول: حين تم توزيع استمارات رسمية من الدولة علينا في الفصول الثانوية الدراسية، تَعرِض على من يشاء التوقيع للتطوع للجهاد في أفغانستان، وقام كثير من الطلبة بكل الفصول بالتوقيع على الورقة، ولكن لم يتلوها اجراء تنفيذي.

الثاني: كنت أصلي فريضة الجمعة بمسجد مجاور لبيتي، وكانت هناك أوامر رسمية بأن تكون الخطبة في كل مساجد الجمهورية عن موضوع غزو الشيوعيين الكفرة لأفغانستان، وأذكر الخطيب وهو ينهي خطبته بعتاب مؤثر حين قال: “هل بلغ بنا الحال أنْ نستورد غيرتنا على ديننا من الأمريكان!”

ولم يكن الخطيب أو أي أحد يدرك الحيلة التي حدثت، لم يخطر ببال أحد أنَّ الأمريكان أرادوا أن يستنزفوا الروس من رصيد العرب المسلمين، ويذبحوا الدبّ الروسي بسكين عربي مسلم، وهذا ما حدث بالفعل، حيث كانت حرب أفغانستان من أكبر أسباب انهيار وتفكك الاتحاد السوفيتي، وانفراد الولايات المتحدة الأمريكية بالأرض وتقلدها منصب الزعيم الأوحد لتستفرد هي وإسرائيل بالعرب خصوصا.

في تلك القصة نلاحظ أنَّ السياسة ترسم مسار التدين الشعبي لصالحها، وتُقحم مفهوم الجهاد وتُوسّعه لغرض سياسي، وبهذا تم ضخ طاقة التدين في غير مساره المرجو من شيوع الأخلاق وبث روح السلام ويقظة الضمير والوحدة بين المصريين، ولكن امتزج بالعنف الحقود والغضوب.

مسارات صناعية مُهلكة

هنالك مشهد سينمائي متكرر وشهير في السينما المصرية، شاب يحلم أحلام الشباب، منغمس في حياته الدراسية ومُطارِد لأحلام النجاح والفوز بفتاة الأحلام، الحياة جميلة وعنوانها الأمن والأمل في بلوغ السعادة، يزوره عمه ويخبره أنَّ عليه ثأر، والثأر يعني سلوك حياة مختلفة، يُخاطر بنفسه ويُميت ضميره، يسير بنفسية وعاطفة القسوة والرغبة في القتل الحقود.

ألقت العائلة في حياة هذا الشاب حَجَرا لا بد أن يَتعثر فيه، وتدخلت في مسار حياته فشوهتها وأفقدتها جوهرها، والشاب في صراع، فلو رفض المهمة المقدَّسة عائليا سوف تَطرده العائلة أو تؤذيه، ولولا هذا التدخل في حياته لعاش حياة سعادة وإنجاز. هذا نموذج صارخ للتدخل الصناعي في مسار حياة الأفراد.

“البلياتشو أو المُهَرِّج”، شخصية درامية وتاريخية شهيرة، ألهمت العديد من الكُتَّاب مثل وليام شكسبير وفيكتور هوجو؛ ملابس مبَهْرجة وشَخَاليل، كثير من التنطيط” والأكروبات والنكات والضَحكات الشريرة أو الساذجة.

ثم تطورت تلك الشخصية مأساويا، نشأت عنها مهنة وخِبرة خطيرة وغير إنسانية، حيث تُجرَى عمليات قاسية لتشكيل الوجه بحيث يكون باعثا على الضحك بمجرد رؤيته، يقوم المحترف باختيار طفل، يُعَلق أثقالا متفاوتة الأوزان والأشكال في أماكن من وجهه، الأذن، الشِفاه، الجِفن، الأنف، الخُدود الخ، تظل تلك الأثقال مُتَدَلِّية وضاغطة لسنوات؛ هي سنوات نمو الطفل، ومع النمو يَحدث تشوّه في الوجه واضطراب في النفسية، فيتسع الفم والعينان، وتتدلى الشفاه، وتتضخم الأذن، فلا يملك من يرى المهرج إلا أن يغلبه الضحك الهستيري، بدأ ظهور المهرج في السيرك ثم أصبح مُضحكَ الملوك.

لو سَلّطنا الضوء على هذا المهرج، وتخيلنا مشاعره التي أهينت ووجهه الذي تشوَّه ودوره في الحياة الذي تم رسمه رغما عنه، هل تطيب له حياة؟ وهل نستطيع تعويضه عن الظلم الذي نال حياته!، هذا نموذج صارخ للتدخل الصناعي في مسار الطبيعة البشرية

الفَرْخُ عندما يكون داخل البيضة، تُلهِمه الغريزة أن يَثْقب جدار كهفه المظلم بنفسه ويُحدِث تَشَققات فيه حتى يخرج للحياة؛ يخرج سليما مؤهلا لتحديات الطبيعة، لكن لو تَدخَّل الإنسان فساعد الفرخ على الخروج بأن أحدث بنفسه شقوقا وأخرج الفرخ؛ سيخرج الفرخ كسيحا وعليلا ويحيا نَكِدا ويَقْصر عمره. هذا نموذج صارخ للتدخل الصناعي في مسار الطبيعة المخلوقات.

عندما يتم تحويل مجرى النهر، الذي حسب قوانين الطبيعة يسير هادئا واثقا من الأعلى إلى الأسفل، فيتدخل الإنسان فيقوم بسد المسار الطبيعي للنهر أو يُضيِّق عليه، أو يَحفر فيه مسارات فرعية تتحرك صاعدة لأعلى، فتتشتت مياه النهر ويتكدَّر، ويَفيض هنا ويغور هناك، فيتساءل الإنسان ما السبب؟ ولا يعرف السبب إلا بالبحث الميداني والعلمي والدراسة. 

هذا نموذج صارخ للتدخل الصناعي في مسار الطبيعة، وتلك نماذج واضحة للتدخل في مسار الشعوب والحياة، ولو تركت بلا تدخل؛ لكان السلام والسلامة، وعلى النخب المثقفة أن تَنتبه لما يُدَسّ في أطباق شُعوبهم من مواد سامة ومُخدرة ومُهَيّجة، وتحذرهم قبل أن يتناولوها متحمسين بحسن نية.

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.