أسرار

أسرار

اللوحة: الفنان الفرنسي ويليام بوغيرو 

نهلاء توفيق

حين العودة

قبل ذهابي للكليّة أخبرتُ أمي إنني لن آكل الفاصوليا على الغداء وخرجتُ مسرعةً حتى لا أسمعُ ردّها، كالعادة انزويتُ في مدّرج الفصل وفكري شارد؛ لولا انتباهي لنظرات الأستاذ لي وهو يشرح والتي جعلتني في حيرة من أمره، هل هو يشرحُ لي فقط؟ أم به حَوَلاً؟ لم أنتبه يوماً أنه يرمقني بنظرة، هذا اليوم، ما بين لحظة ولحظة، يحوّل نظراته إليّ، صرتُ أدقق النظر فيه وكلّي آذان مصغية لما يقول، أول مرة أنتبه لهندامه ووسامته، وجميلٌ شرحه وعذب صوته! لن أدخل لكم في تفاصيل اللقاء الأول في هذا اليوم؛ فخفقان القلب يدعو للاختصار.

رجعتُ أقفزُ قفزاً لا مشياً؛ فاهتزّ البيتُ من تحت قدميّ: 

– الفاصوليا لذيذةٌ جداً أمي، أممممم

– عجباً! لم تحبيها يوماً ولا تأكليها. 

أختي دينا دوّرتُها البيت على ظهري وهي تضحك وتضحك، والكلّ مستغربٌ من فعلتي.. أبي أقبّله بقوةٍ فيتعجب: ألم تكن لحيتي تُخرمشك؟ غسلتُ الصحون ونظفت البيت، وأمي تردد: عجباً.. عجباً. 

رحتُ آكل الكتب أكلاً ولم أبرح غرفتي حتى أنهيتُ كل مسؤولياتي، مساءً، أعطيتُ التلفاز أخر صوتٍ وأنا ودينا نرقص ونغني معه. 

– فيه شي جديد، أكيد! البنت ليست طبيعية، قالت أمي وهي غارقةٌ في الضحك. 

جلستُ جنبها على الأريكة فقرصتني: بنت، قولي، ما بك؟ ما لجديد؟ قفزتُ من مكاني وجريتُ إلى غرفتي رقصاً: ستزول علامات الاستفهام، بعد كم شهر حين تخرّجي؛ فلا تستعجلي أمي.

درسٌ متعمَد

الببغاء اليوم يعيدُ كلمات لم نألفها في بيتنا: أحبكِ.. حبيبتي.. أموت فيكِ.. الطعام لذيذ جداً.. عاشت إيدك.. تسلميلي ياغالية.. ها ها ها لا ليس هكذا.. كلمات حبّ وغزل عفا عنها الزمن جعلتني في حيرةٍ من أمري، كان كل يوم يردد: يا حقيرة.. ما أتفهكِ.. ما أغباكِ.. لم أشبع.. ليس لذيذاً.. ابتعدي عني… إلخ.

كانت تحبسه في غرفة الأولاد حين زيارةِ أحدٍ لنا، وتقول لي: أخزانا غرابك وفضحنا؛ فأسكت. سألتُها عن هذه الكلمات ومن أين له بها؛ أجابت بإيماءةٍ أنها لا تعرف، لم أذهب لعملي في اليوم التالي واختبأتُ خلف شجرةِ الآسِ جانب جدار البيت أراقب.. جاء طفلُ جارنا الصغير أخذ قفص الببغاء وأرجعه بعد خمس ساعات، جارُنا، عجوزٌ مقعد، له طفلُ وحيدٌ وزوجة خرساء.

بمنتهى الصراحة

عندما أكون لوحدي في البيت فإني أكلم نفسي، تارةً أواجه المرآة، وأخرى وأنا أتنقل داخل البيت أقضي أعمالي، أخاطبُ العشرات ممن أعرفهم وممن لا أعرف، وأضحك كثيراً، وفِي بعض الأحيان أتصنع البكاء بدون دموع؛ أدافعُ عن نفسي وأنهرها حيناً آخر، أكتشفُ أني أُخطئ فألومني، وأمدح نفسي عندما أتكلم بمزاياي الحسنة بصوتٍ عال. 

أمثلُ أجزاء من مسرحيات بعضها قد كان فعلاً، وآخر أؤلفه ارتجالياً؛ وأصفق، أشعرُ بسعادةٍ كبيرة حينما أختلي بنفسي، أُخرجُ طاقةً هائلةً من داخلي، والكثير من الأمور المهمة جداً والتي عصى عليّ التعبير عنها والتفوه بها أمام الغير لأسباب كثيرة، وهذا سرٌ لا تعرفه عائلتي ولا أهلي منذ أن كنتُ صغيرة وإلى الآن، متأكدةٌ تمام التأكد لو اكتشفني أحدٌ منهم صغيراً أم كبيراً كان، سيرميني بالجنون؛ ولهذا أنا أُحكم إغلاق الباب جيداً بالمفتاح وأهتم بالمراقبة.

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.