اللوحة: الفنانة السورية جيهان محمد عبد الله
دعاء صابر

احتضن أمه بقوة، لم تكن تتخيل أنه طفل ذو أربع سنوات، قال برعب وهو يبكي ويدفن رأسه في صدرها:
– ماما ماما بديش اموت، لسّاني صْغَيِّر ما بدي موت!
احتضنته بقوة وانهمرت دموعها رغما عنها فخرج صوتها متهدجا:
– بابا مو قلتلّي إنك شجاع وما بتخاف؟ مو قلتلّي إنك ما بتخاف تموت لإنك بدك تشوف البابا؟
– لا لا خلص بديش اموت، بدي ضلّ هون، ماما قوليلهم خلص، قوليلهم ابني صغير بدوش يموت بدو يعيش، بدو يروح عالمدرسة، بدو يكبر ويصير رجال أول وبعدين يموت.
تزايد صوت الرصاص فدفن وجهه في صدرها أكثر:
– ماما اعملي شي، انتِ بدك ياني موت؟
نظرت حولها بقلة حيلة، راحت تشغل نفسها بالبحث عن مخبأ له، لكنها في قرارة نفسها كانت تهرب بعينيها بعيدا عنه وعن التفكير في مصيره بينما جسدها ملتحم به، رأت عربة كارو قريبة فقالت له:
– خلص بابا، شايف ها العرباية يلي هناك؟ روح اتخبا تحتا وما رح يصيبوك
– طيب وانتِ ماما؟
– أنا بضل هون وما رح يصيبوني، انت بس روح اتخبا هونيك وما رح يحصل شي ماشي بابا؟ بسرعة.. بسرعة.
نظرت خلف الجدار الذي يحتمون به وتأكدت من خلو المكان ثم أشارت له فركض نحو العربة واختبأ تحتها راقدا على بطنه وقد أغمض عينيه ووضع يديه على أذنيه كي يحجب عنه صوت الرصاص.
كانت تنظر إليه من خلف دموعها عندما مرت طائرة ألقت بقنبلة، كانت على وشك الركض نحو العربة لكن الأوان قد فات، راحت تصرخ وتصرخ حتى حسبت أنها أسكتت الحرب بصراخها، لم تدرِ أنها هي من صُمَّتْ!
– ليه بابا مو قلتلّي ما بدك تموت! مو قلتلي بدي عيش وصير رجّال!
التفتت حولها وصرخت بهستيرية وهي تلطم وجهها: كان بده يكبر! كان بده يروح للمدرسة! كان بده وكان وكان…كان بده يعيش يا كفرة يا ظلمة!
خرجت من خلف الجدار وركضت باتجاه الرصاص، رآها رجل كان يضرب بسلاحه مع المدافعين، ناداها فلم تلتفت إليه، وقفت تنظر نحو الميدان بعينين زائغتين، أمسكت بيدها شيئا حسبته حجرا كبيرا، ثم جرت إلى أن وقفت في منتصف الميدان، غير شاعرة بالرصاص الذي اخترق جسدها، ألقت الحجر نحو أول جندي رأته؛ فإذا بصوت انفجار يدوي وقد تناثرت معه أشلاء الجندي!
تسمرت في مكانها ذاهلة، لم تكن تعلم أن ما كان في يدها هو قنبلة يدوية غير منفجرة، نظرت حولها فإذا بالخمسة الباقين ينظرون إليها، عندها انحنت تخلع حذاءها كي ترميهم به فإذا بهم يهربون حاسبين أنها تحمل قنبلة أخرى، ركض نحوها الرجل الذي كان يشير إليها بالاختباء:
– شو عملتي لحتى يهربوا!
أجابت وعيناها شاردتان بعيدا: شفت لمن يتهوَّش الكلب بالصّرماية؟