اللوحة: الفنانة البولندية تمارا دي ليمبيكا
محمد محمود غدية

العزف على وتر الغياب
لا بد من القفز خارج حدود المألوف والعادي، في مراقبة الطيور السابحة في الفضاء الرحب، الزمن وحده يأخذنا إلى عوالم مدهشة، أشبه بقطار يمكن تأخير إقلاعه، وإبطاء سيره بعض الوقت، قد يتوهم البعض أن لديه القدرة على إيقاف سيره، لكنها الحياة التي لا تتوقف، تسير بنا وفق مقدرات لا نملكها، أمام مرآة مذهبة هدية شاعرها وقفت تتأمل جفنيها المغلقين، مثل سحابتين على قمرين متعبين، كم تغزل فيهما شاعرها الذى أحبها، ومازال ينزف شعرا في غيابها المفاجئ والصادم، مع عريس جاهز رحبت به أسرتها التي لم تتكلف شيئا في جهازها سوى شنطة سفر لا غير، وتتبعه مثل طائر مكسور الجناح لا يقوى على الطيران لبلاد الثلج والصقيع، امرأة في عداد الموتى لأنها لا تعيش الحب، مثل حبة رمل وحيدة في صحراء شاسعة، افتقدت أشعاره الرقيقة وسمرته المدفئة للروح، كالبطاطا والذرة المشوية، تنفض قطرات الثلج من فوق معطفها، وهي جالسة فوق مقعد بارد في حديقة تخف روادها، يلفها الصقيع والثلج، والليل المندى برائحة مطر قادم من بعيد، تخالطها رائحة البن وقرقعة النرد وزهر الطاولة وجلبة المقهى، وأغاني محمد منير يعشقه شاعرها الذى يعيش بنصف قلب وبقايا حلم لم يكتمل، بعد أن أقام لها في قصائده معبدا للجمال وجواز سفر إلى مدن العشق، مأسورا بعينيها التي تشبه البحر زرقة وصفاء، تشتد كثافة الظلمة، الغيوم تحجب النجوم والقمر، وحدها تمضغ الأسى والغياب، الإعياء يطبق على قلبها الموجوع، تخرج من الحديقة تتبعها موسيقا جنائزية، وصخب المقهى وكلمات شاعرها: حبيبتي لا تغيبي.. وغابت.
امرأة كالمطر المباغت والإعصار
وقف مشدوها لاهثا أمام فتنة السكرتيرة الثلاثينية، جمالها وحده لا يخصها إنه جزء من الهبة التي تجلبها إلى العالم عليها أن تتقاسمه معه، ابتسم لهذا الخاطر، وهي تستلم منه مصوغات التعيين تكبره بسنوات خمس أو أكثر قليلا، أخرجته من شروده لها حضور أنثوي من الصعب تجاهله قائلة: مر في الغد.
كان لابد أن يخضع لبعض التدريبات من مخاطبة العملاء والرد على الهاتف، وتنظيم الصادر والوارد، أربكته وهو يصغى لها تارة وتارة أخرى يتوه منها بعد أن دوخه عطرها، سيقوم بأعمال السكرتارية حتى عودتها من رحلة عمل إلى ألمانيا مع صاحب الشركة لمدة أسبوعين.. عادت بحقيبة امتلأت هدايا، برفانات وقمصان وبدل للسكرتير الجديد الذي أدهشته الهدايا، دعته إلى عشاء خارج العمل، حدثته عن إعجابها به، وكيف اختارته من بين كثيرين للوظيفة، وأضافت الكثير مما لم يقله عن الشائعات التي ترددت في غيابها تقول إنها عشيقة صاحب الشركة، مؤكدة أنها مجرد شائعات يسعد لها صاحب الشركة، وهي جزء من صفقة عبارة عن شقة وسيارة ومبلغ مالي كبير، الحقيقة المؤكدة أن الشائعات تظهره بالرجل الكامل وهذا غير صحيح، وهو لهذا السبب لم يتزوج حتى الآن.
– سنتزوج وأنقل ملكية شقتي الخاصة باسمك وسأتحمل كل تكاليف الزواج، فقط في مقابل موافقتك لي على السفر.
– معذرة لأنني لا أقبل بهذه الصفقة الرخيصة، لابد أن أنسحب من الشركة، من مواقيتك، من رصيفك من عينيك، يا امرأة نشبت أظافرها في قلبي الواهن، كالمطر المباغت والإعصار.