اللوحة:الفنانة الألمانية كاثي كولفيتز
فجعتها رسالته المكتوبة بخط طفولي فوق باب البيت المهدم إلا من بقايا جدران يخبئون خلفها عذاباتهم، اللون الأحمر الذي سالت قطراته تحت كلمات متعثرة لا تكاد تجد خطواتها على السطور، الإيجاز المحبط فيها؛ لا يجعلها تستوعب اللحظات الأخيرة: «اعذريني يا أمي، لم أعد أحتمل»
الباب المهترئ الفاصل بينها وبين ما حملته الرسالة من خيالات؛ بات صرحا من مخاوفها، بين اختلاجات صدرها وارتعاشات كفيها؛ قتلتها الاحتمالات، لابد أن تدفعه وتدخل، لكن كفيها قد انشغلا عنها بتثبيت ذلك القلب المرتعد في مكانه، محاولة أخيرة لحفظه حيا.
ركلته بقوة، كاد ينهار، هرولت تفتش خلف متاهة الجدران، هنالك في الزاوية الأخيرة، قدماه الصغيرتان المتربتان تخبراها أنه مسجى خلف ذلك الجدار، في مونتاج متقن تمر المشاهد متسارعة: بسمته الدافئة، كركرة صوته وهو يشاغب إخوته، يتصايحون خلف كرة صنعها لهم من بعض قش وجورب قديم، يتنازعون على رغيف خبز بالكاد تحصلوا عليه؛ فيترك نصيبه في رضا للثلاثة الباقين، قدماه المجروحتان من مصارعة صخور الطريق وهو يحمل «جركن» الماء من آخر شاطئ للأحياء، حكاياه التي يقصها ليلا ليدفئ وحدة أشقائه ويعلمهم البطولة والصبر، دافعا عنهم رهبة الظلام، احتضانه الأخير لهم متدثرين بحرام صوف مهترئ تحت سقف يئز بالصقيع.
لهيب القذائف أشعل حلكة الليل، انهار السقف المريض فوق الصغار، تداعت الجدران الرطبة مستسلمة للموت، من تحت الأنقاض يخرج حاملا أصغرهم، لم ينتبه لكسر كتفه الأيمن أو للنزيف المنسال خلف رأسه، اقتات الذل ومر الفقد على روحه، الفتى ذو السنوات العشر لم يعد يحتمل أكثر.
نادته بصوت مرتعش.. لا تستطيع أن تقترب.. نادته ثانية.. لا مفر إذن، اقتربت تجرجر كلوم روحها، شيئا فشيئا تكشف لها: بنطاله البني المقطوع عند الركبتين، قميصه الوحيد الذي لم تعد تعرف له لونا، تذكر أنه ذات يوم كان أبيض، رأسه الوادعة بعيونها المغلقة على اتساع المهانة أسندها على فخذ أخيه الصغير ذي الثلاثة أعوام، الصغير ذاهل تماما بعينين تحجرت تحت جفنيهما دمعتان، انهارت إلى جواره، تهزه، تحتضنه، تنادي بأعلى فجيعتها: يامحماااااااد.. الثرى الرطب تحته، والجثة الباردة ينبئانها باللاجدوى من النداء، لكن صوت الفجيعة مازال يتردد في الفضاء: محماااااااااااااد.

متميز
إعجابإعجاب
شكرا لك.
إعجابإعجاب