اللوحة: الفنان الإنجليزي غونر ميرز
فواز خيّو

حين رسم دالي الساعات السائلة؛ أراد القول إن الزمن يسيل.
دالي عدّل لوحتك.
كل شيء يسيل هنا، التاريخ، الجغرافيا، الدم، و كل شيء يسيل هنا إلّا الأنهار فهي جافة وشاحبة. حتى أنا أسيل وأكاد أجرفني في طريقي.
….
لم تفلح كل محاولاتنا للوصول الى زوجتي هيلانة المعتقلة عند جيش الاسلام، والتي لا تعرف إن كنا أحياء أو أمواتا، كانت تذهب لتسأل عنا فاعتقلوها.. لم يكن الهدف تحريرها بقدر ما كان إخبارها أننا لم نُقتل.
الجميع غادروا بعد أيام.. لم نغادر.
ابني سرجون تحت القصف ذهب ودار على أهالي الشباب الذين كانوا معنا عند النصرة ليطمئنهم على أبنائهم. من أين امتلك كل هذه الشجاعة والطيب؟
الظروف الطارئة هي التي تستنهض ما في أعماق الانسان من طاقات كامنة.
صرت أرسل سرجون لعله يصل الى أحد يساعدنا..
وتم ترتيب موعد مع قائد منهم.
ذات مساء وتحت القصف والقنص؛ طلبت منه أن يخرج طالما ذلك القائد جاهز لمقابلته.
خرج في السيارة ومرت الساعات ولم يعد، مرت الدقائق والساعات كالمنشار على الأعصاب.
صرت أدعو الله أن يكون معتقلا ولا أن تكون أصابته قذيفة.
غامرت وخرجت الى الشارع، أستوقف كل سيارة لأسأل من فيها هل رأيتم سيارة نوعها ولونها كذا مضروبة؟
نعم ذلك القائد كان شهما، لقد أدخله إلى السجن بدلا من مساعدته على إطلاق سراح أمه.
مرت أيام والثواني كالجمر يتدحرج على جلدي.
الطعام قارب النفاذ، والدخان تقويت. وبقي شمعتان، وأنا ونور وحيدان في هذا القبو المظلم الذي يشبه القبر. غير الخوف. من أن يأتي أبو البراء، ذلك الغريب الذي اعتقلنا، وينتقم مني؛ لأني خرجت رغم إرادته.
بعد أسبوع خرج أحدهم من السجن وقدم لي وصفا لشاب يشبه سرجون، بأنه دخل السجن في ذلك المساء..
في صباح اليوم التالي وقد نفذ كل شيء، حتى ما تبقى من أعصاب.
طلعت الى البيت، عبأت حقيبة ببعض الثياب وغادرنا مع مجموعة كانت تهم بالخروج، وخرجنا تاركين خلفنا هيلانة وسرجون للمجهول، وبيتنا الذي أصيب بقذيفة والسيارة.
فوق الثلج وتحت رصاص القنص، مشينا سبعة كيلو مترات حتى وصلنا معمل الإسمنت.
كانت نور ابنة السبع سنوات تمشي خائفة مرهقة، وتطلب مني أن تحمل الحقيبة لتريحني قليلا.
ما كان يؤلمني سؤالها: (لوين رايحين بابا)؟، أدير وجهي لأخفي دموعي عنها.
كان الخروج والطريق خاصة بعد معمل الإسمنت خطيرا ومؤلما..
16 ساعة حتى وصلنا دمشق. هذه المدة تكفي لأن تصل أوستراليا، حين لا تكون أنت خارج الزمان والمكان والتاريخ.
ستة أشهر قضيناها في دوار رهيب حتى تلقيت أول اتصال من سرجون واطمأنينا بأنهم لا زالوا أحياء.
حين سمعت صوت سرجون وقبل أن أسلّم عليه أعطيت الهاتف لنور وقلت لها: اسمعي صوته يا بابا. كانت لحظة دامية، أخبرني أنه التقى بأمه.
وبعد أيام اتصلت هيلانة بصوت مرهق و كان جسمها يذوي ويتفسخ من الرطوبة، وبدأت ابتزازات المسلحين بالمال وفواتير الاتصالات الباهظة التي أرسلها لهم.
عشت أشهرا على وعود ما يسمى وزارة المصالحة بإجراء صفقات تبادل أسرى، وحين قطعت الأمل فتحت صفحة على الفيس، ونشرت منشوارا مثيرا بعنوان (… يا وطن) بدأته بعبارة (أنا المواطن السابق فلان، سأضع رأسي على فوّهة المرحاض وأفرغه من كل القيم التي حملتها) أثار المقال ضجة كبيرة واخذته الكثير من صفحات الفيس والمواقع والصحف، وكنت أجهد لأضمن تواصلا مع وائل علوان الناطق باسم فيلق الرحمن، حيث هيلانة وسرجون محتجزان عندهم.
وفي نفس اليوم فوجئت بوائل علوان يطلب صداقتي على الفيس، فوافقت فورا وأرسلت له رسالة قلت فيها:
تقولون بأنكم ثرتم على نظام ظالم يعتقل الناس، وها أنتم تعتقلون الناس قبل أن تستلموا السلطة، فكيف لو استلمتموها؟ إذا كنتم ستتصرفون مثله لملذا ثرتم عليه بالأصل؟ ثم أنكم تعرفون تاريخي في البلد، فأية رسالة توجهونها حين تعتقلون أسرتي؟ وهؤلاء المدنيون الأبرياء ما ذنبهم لتعتقلوهم، حتى العلويون ولو كانوا زوجات وأبناء الضباط والطيارين والعساكر، فالعسكري ينفذ أوامر، وهل سيأخذ موافقة زوجته وابنه ليضرب؟
للأمانة كان وائل علوان متفهما واحتمل قسوة رسائلي، وتغيّر التعامل مع هيلانة وسرجون، وصاروا يسمحون للطبيب بأن يزورها.
كانوا يشغّلون الشباب بحفر الأنفاق في البرد والحر ونقل الجرحى والقتلى من ساحات المعارك، وعلى نصف رغيف يوميا بسبب الحصار.
ومع كل موجة قصف على الغوطة تتقصف أعصابنا مخافة أن يطالهم القصف، خاصة أن السجن الذي فيه هيلانة طار أحد جدرانه حين أصابته إحدى القذائف.
وبعد أشهر طلبوا تدخّل فيصل القاسم بشكل شخصي، وفوجئت بهذا الطلب ثم اكتشفتُ بأنهم يريدون أن يكتب عنهم في صفحته على الفيس حيث يتابعه عشرة ملايين شخص.
كان التواصل بيني وبين فيصل مقطوعا منذ سنوات، وقد أوقفتُ يومين بسبب تقرير كيدي بتهمة التواصل معه وذلك قبل دخول المسلحين عدرا.
وخلال ربع ساعة كان فيصل يفتح معهم خط التواصل، وتولّى ماهر شرف الدين المتابعة اليومية، وابتزوه بسببنا، وأثمرت الجهود في نهاية المطاف بنهاية سعيدة.
كان وزن سرجون 40 كيلو من أصل 76 ووجهه قد صغر كثيرا، ولو صادفته يومها في الشارع بالتأكيد لن أعرفه.
من أصل 9000 مخطوف في دوما نجا 200 شخص، والباقي إما ذهب في التصفيات أو في القصف.
وبيتنا تم تعفيشه ونهبه وتحطيم ما تبقى من أثاث وفرش ونثره على مساحة أرض البيت، والسيارة تم تطبيشها وسرقة بعض محتوياتها
يا لها من محنة.