السماء التي سافرت في قطار!

السماء التي سافرت في قطار!

نورا أحمد

اللوحة: الفنانة السعودية فاطمة حسن آل مطر 

تعبت.. حقًا تعبتُ من التمسك يا خالقي، تعبتُ من تخدير الألم الواقعي بالأمل الخيالي، تعبتُ من تكرار “أليس الصبح قريب”.حاشا ألا أؤمن بها كعقيدة ثابتة! لكن كل ما أريدك أن تعلمه بأنني حقًا تعبت، أتعبني هذا السفر السافر العتمة! وأنت خير من يعلم أن طريقه كان طويل ومضنٍ حقًا! آه لو أملك إنهاءه الآن وفورًا! لكنني أعلم أنني لا أمتلك حقٌ مترف كهذا! ومع أنني سوف أستمر ورغم عدم انحدار قطاري إلى هوة اليأس بعد، لكنني أعلن عن تعبي.ليس كمهزومة وإنما كمعزوفة حزينة تُبكي من يسمعها، بينما تكون أنهت وظيفتها الأساسية المعنيّة بإنقاذ مؤلفها من بؤسه الخاص، أو من المنيّة إن صح القول! أعلن هنا وبين يديك كعاصٍ يعترف بذنوبه عن شديد تعبي، إنّما ليس عن يأسي.

أعترف: يديّ متعبتين، عينيّ متعبتين، وكلّ كياني بات مرصودًا للتعب، حسنًا، هذا الاعتراف ليس كل شيء، ثمة اعتراف آخر؛ وهو خطير بالمناسبة، خطير لأنه مدفون في بئر عميق، لأنه سر لا أفشيه حتى لي، تعمّدت نسيانه حتى نسيته فعلًا، لأنني لا أقوله ولا أتمتم به وأطرده من عقلي كلما جلست هناك أفند أفكاري! خطير لأنه هزمني سابقًا ولمرةٍ وحيدة أن اعترفتُ به! خطير لأنه يجردني أمامي من قوتي الحقيقة أو الموهومة والمزعومة، ربّما.وأنت تعرف يا أملي بأن كل ما ملكته خلال طريقي هو قوتي الذاتيّة والتي بلا شكّ لم يشعل جذوتها فيّ سواك، قوتي التي كانت كلّ ما اعتمدت عليه عندما حشرتني السكة في مفترق شديد الوعورة بين اختيار الرضى بالظلم والانحياز للطرف الأقوى وبين نصرة المظلوم والوقوف لقول كلمة حق. أنت تعرف جيدًا أنني حينذاك اعتمدت على ذاتي الموصولة بنور غامض لم أكن أبصره ولكنّي شعرت به في عظامي. يعزّني بكل معاني العزّة والاعتزاز، يجعلني لا أنحني ولا ينثني عزمي، نور سماوي يخبرني أنك موجود وستغلب الظالم، اعتمادي على حقيقة أنني أقف مع الطرف الغالب حتى وإن بدى للجميع مغلوبًا رجّح كفة قوتي على ضعفي.لهذه القوة التي نجيتني بها يُعد اعترافي هذا خطير جدًا.

تعلم أيضًا أن هذه القوة – التي قالوا عنها فولاذية بينما كنت ولا زلت أميل لنسبتها إلى النور- هي كل ما ركنتُ إليه عندما انحدر بي الطريق نحو ذلك المنعطف الخطير الذي تنقطع بعده السكة، ساحبةً خلف مقطورتي ثلاث مقصورات في كل واحدة منها شمس صيّرتني سماءً بمشيئتك النافذة! أتذكر تلك الحقبة جيدًا ولا أنسى تفصيل صغير من تفاصيلها وأؤمن أنك تعرف ما حدث حينها لأنه لم يسمع بكائي المتعب حينها سواك. بكاء كالذي أعيشه اليوم، من سواك أنقذني في تلك الظلمات اللجية التي يعمى فيها البصير؟

كان إنقاذ كاستيقاظ من كابوس جاثومي! يا الهي، كيف رفعتني بمعجزة ما على حين غرة من تعبي وتربّص الطريق؟ طار بنا القطار إلى حيث ننتمي، ليأخذنا نحو سحابات بيض، كم كانت مفارقة مذهلة عندما كنت أنظر من الأعلى لسكة متهدمة وعلى أحد جانبيها أولئك الذين أرادوا فصلي عن شموسي وهم ينظرون لقطاري يتعالى، كم بُهتوا حينها! طريق لا أنسى أنه لم يكن على الجانب الآخر منه شيء إلّا السواد المميت يفغر فاه لابتلاع شموسي، والآن وبعد هذه المقدمة لأبرر خطورة اعترافي، هأنذا أعترف: رغم قوتي ورغم أنه لا يمكن أن يُستدل بهذا الاعتراف على ضعفي!

حسنًا.. يبدو أنه من الصعب كثيرًا على روح حرة كروحي أن تعترف.. لا بأس.

لابدّ أن أكتبه، أقوله، أنطقه، سوف أعترف بأنني أحتاج لمن يسندني لتجاوز هذا الآن، هذا الظلام الكبير، هذا اليوم وغدًا بالتحديد.ها قد كتبت اعترافي، ولكن بئسًا، لا أستطيع نطقه بتاتًا! ثمة فرق كبير بين أن نكتب أصدق ما نشعر وبين أن نقوله حتى لأنفسنا. ربّما تردد لساني هو محض تمرد مساندٌ لروحي! ربّما لأنني دربته على تكرار الصبح ونكران العتمة! ربّما لأن هذا حصني الأخير قبل أن أفلت مقودي وأريح يدين تعبتا، حصني الأخير هاهنا.. في قمرة القيادة لقطار يسافر منذ الأزل، سريعًا كريح، زاحفًا كسلحفاة، طائرًا كفينيق، وَ.. متوقفًا للتزود بوقوده من الاتصال بك! نعم هو تحصّن ضد الاستسلام.حتّى في هذا اليوم الشديد الكرب على إنسانيتي أولًا، على تعبي، على أنوثتي، على احتياجي، على إيماني، وعلى صبري الطويل، لن أقول لمخلوق خلقته تعال واسندني، سأفعل كما اعتدت، سأتلو ابتهالاتي وسأناجيك يا خالقي: أرني صبحك القريب، فأمد قطاري في العتمة قد طال..وأنا مخلوقتك التي من كل هذا الظلام قد تعبت.شكرًا يا الله لأنك تسمعني وليقيني بأنك ستجيب.

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.