يوميات هناء في نيويورك – رحلة واشنطن دي سي

يوميات هناء في نيويورك – رحلة واشنطن دي سي

اللوحة: الفنان الأميركي تشايلد حسام

هناء غمراوي

خريف العام 2023 كان ساخناً جداً في المنطقة العربيّة! تلك السخونة، التي ألهبت مشاعرنا بمشاهد العنف والدمار هناك، كان لها أثر كبير على النفس رغم بعد المسافات. حيث قتلت في داخلي عنصريّ البهجة والدهشة اللذين كنت أستقبل بهما الخريف هنا كل عام؛ وعلى مدار سنوات…

كان الخريف هذا العام في نيويورك شاحباً وبارداً وكئيباً. 

رحلة واشنطن قفزت الى الاذهان، فيما كنا نبحث عن مكان نقضي به عطلة نهاية الأسبوع، وحيث أننا كنا لا نملك رفاهية الوقت؛ يومين فقط من الاجازة بحكم ارتباط ابنتي في العمل. وبما أن الإقامة في الجبال يلزمها وقت وتخطيط أطول راح تفكيرنا الى زيارة واشنطن، تلك الرحلة التي تأجلت لعدة سنوات.

صباح السبت، من الأسبوع الثالث من أكتوبر كان موعدنا للانطلاق. غادرنا نيويورك قرابة الحادية عشرة قبل الظهر. الطريق طويل يحتاج لحوالي خمس ساعات للوصول. وعلى جانبيه كنا نشاهد أثر الخريف على الطبيعة، حيث خلعت معظم الأشجار حلتها السندسية واستبدلتها بألوان زاهية تضاهي بعضها حمرة الشمس ساعة المغيب.

في كل مرة نغادر فيها استوريا نيويورك كان علينا عبور جسر (ترايبورو) أو روبرت اف كينيدي الممتد فوق مياه الأطلسي بطول يزيد عن 700 متراً.

لسلوك الطريق باتجاه واشنطن دي سي كان علينا ان ننعطف جنوباً بعد أكثر من ساعة من المسير داخل ولاية نيويورك باتجاه ولاية نيوجرسي، التي استغرقت منا أطول مدة من المسير. هناك توقفنا في احدى الاستراحات للتزود ببعض المأكولات الخفيفة، وتناولنا القهوة قبل استئناف المسير، والتوغل جنوباً أكثر باتجاه “ميريلند”. لا اعرف بالتحديد كم من الوقت استغرق عبورنا لولاية ميريلند. فقد كان تعب الرحلة قد بدأ يسيطر على حواسي وتركيزي. 

أخيراً تمكنت من اكتشاف دخولنا واشنطن عبر متابعتي خريطة الرحلة على شاشة الهاتف المثبتة أمامي، والتي كانت تنقل شريط تحركنا مذ غادرنا نيويورك.

كانت الساعة تقترب من الخامسة مساء حين دار نقاش حاد بيننا نحن الثلاثة؛ رفيقتنا في الرحلة، ندوة ابنتي، وأنا. رفيقتنا كانت ترى بأن نتابع السير باتجاه الفندق، لاستلام الغرف والاستراحة قليلاً ومن ثم العودة لتناول العشاء والتعرف على معالم المدينة ليلاً. أما نحن فكان لنا راي آخر وهو الدخول الى واشنطن دي سي فوراً ومشاهدة البيت الأبيض والمباني المحيطة به…

لا أخفي عدم دهشتي لدى رؤية لذلك الصرح!!

حول المبنى الرئاسيّ، الذي يعود تأسيسه لأكثر من مئتي عام تجمع خلق كثير. جاؤوا من مختلف الولايات الأميركية (بالطبع كانت تجمعهم جنسية واحدة وان تعددت أصولهم وتنوعت سحناتهم). في الطرقات المؤدية اليه توقفت بعض الحافلات، التي قامت بنقل معظم الزوار…

بدا لنا البيت الأبيض، كان محاطاً بسور من القضبان الحديدية بشكل سمح بمشاهدة المبنى من الخارج، وأخذ الصور التذكارية دون أيّ تدخل من الحراس المتواجدين على البوابة.

تمشينا قليلاً حول المبنى وأخذنا بعض الصور التذكارية. لم يكن سروري بالوصول والمشاهدة موازياً لانتظاري ولهفتي لتنفيذ تلك الزيارة. ولعلّ التوقيت قد لعب دوراّ في نقل هذا الشعور اليّ.. لم أستطع أن أرى بياض ذلك الصرح العريق! بدا لي شاحباً وباهتاً.

بعد حوالي ساعة عدنا الى حيث ركنا السيارة وتوجهنا الى الفندق، الذي كان يبعد قرابة 15 دقيقة فقط. كانت خيوط الظلام قد بدأت بنشر ظلالها على المدينة.

بعد استلامنا الغرف صعدنا الى المطعم الدوار، في الطابق الأخير من الفندق، والذي كان سيسمح لنا بمشاهدة المدينة بأضوائها المتلألئة. ولكننا ولسوء حظنا لم نكن نملك حجزاً مسبقاً؛ فاضطررنا للهبوط مجدداً الى بهو الفندق وتناول العشاء هناك.

صباح الأحد غادرنا الفندق مزودين ببرنامج حافل حاولنا أن ننهيه بحدود الرابعة بعد الظهر حتى نتمكن من العودة قبل منتصف الليل…

برنامجنا كان يتلخص بزيارة بعض المناطق السياحية والمعروفة وكان في مقدمها متحف الفنون، الذي اكدّت عليّ زيارته ليندا معلمة الرسم في المركز الذي اتردد اليه في نيويورك.

هذا البرنامج، كان قد تم انجاز بعضاً منه بالطبع في اليوم الاول؛ كزيارة البيت الأبيض والمباني العريقة المحيطة به. وما زال امامنا الكثير لننجزه في الساعات القليلة لهذا النهار.

بعد الفطور مباشرة توجهنا الى مبنى “لنكولن ميموريال”. لم نتمكن من التجول داخل المبنى بسبب اعمال الصيانة والترميم، ولكننا تمكنّا من أخذ بعض الصور التذكارية أمامه مع بعض طيور البط، التي كانت تخرج الينا أحياناً من البركة الاصطناعية التي تتطاول امام ذلك المبنى، حتى تصل الى المبنى العملاق المقابل؛ (واشنطن مونيمنت). والذي يشبه في شكله وارتفاعه بعض المسلات الفرعونية…

في الحديقة المقابلة لمبنى لنكولن ميموريال، أقيم نصب تذكاري للجنود الذين شاركوا في حرب فيتنام. وعلى بعض الجدران الرخامية داخل الحديقة، تم حفر الاسم الكامل لجميع الجنود الذين لاقوا حتفهم في تلك الحرب. والذين فاق عددهم الخمسين ألف جندي بحسب الاحصائيات الأميركية.

محطتنا الثانية لهذا اليوم كانت المتحف (ناشيونال غاليري أوف أرت). وكما يشير اسمه فهو كان معرضاً مخصصاً لفن الرسم حيث يمكننا العثور داخله على أعمال معظم الرسامين العالميين؛ منذ بداية القرن السابع عشر وحتى اليوم.! لم تكن اللوحات موزعة في القاعات بحسب أسماء مبدعيها، وانما كانت مرتبة بحسب الحقبة الزمنية التي تنتمي اليها…

مرّ أكثر من ساعتين ونحن نتجول داخل المعرض ومازلنا نشاهد اللوحات المتنوعة. وأكثر ما لفت نظري لوحة كبيرة جداً من أعمال الرسام الفرنسي جاك لويس دافيد (1812) كانت عبارة عن رسم لنابليون بونابرت، واقفاً. وعلى ما يبدو كانت المقاييس التي اعتمدها لتنفيذ هذا البورتريه حقيقية. لان اللوحة كانت تغطي أكثر من نصف الحائط في احدى قاعات العرض.

تجاوزنا منتصف ذلك النهار وما زال هناك العديد من القاعات لم ندخلها…

وطبعا كان الرأي متوافقاً على أن نضحي بمشاهدة كافة ارجاء المتحف لصالح تنفيذ بقية برنامجنا مع الاحتفاظ ببعض الطاقة اللازمة…

بعد استراحة بسيطة على كوب من العصير في كافتيريا المتحف المفتوح على جدار مرتفع من الرخام الأسود؛ حيث كان شلال من الماء ينساب فوق ذلك الجدار فيصدر عن انسيابه موسيقى جميلة تطرب لها الأذن.

مشياً على الأقدام غادرنا المتحف باتجاه مبنى الكابيتول (كابيتول بيلدينغ) مبنىً حكوميّ ضخم مؤلف من عدة طبقات فقط. وهو مبنيّ على الطراز الأوروبيّ ومطليّ باللون الأبيض. يعود تاريخ بنائه لأكثر من مئتيّ سنة.

ما يميز هذا المبني العدد الكبير من الدرجات الرخامية التي تحيط بواجهته الامامية بعرض عشرات الأمتار. مما يجعل المبنى أشبه بقلعة قائمة على ربوة قليلة الارتفاع. وتطلّ على ساحة واسعة تكسوها الأشجار الضخمة والوارفة.

اقتربت الساعة من الثالثة بعد الظهر وكان علينا ان نحدد أولويات ما تبقى من برنامجنا لقضاء الساعة الأخيرة المتبقية لنا في العاصمة. ارتأينا أن نخصصها لزيارة (يو اس بوتانيك غاردن). فنحن سنكون هناك على الأقل بين الخضرة والازهار المتنوعة التي تمثل مختلف الأقاليم المناخية في العالم. والتي تم الحصول عليها عن طريق الاستعانة بمهندسين زراعيين ومتخصصين في شؤون البيئة والمناخ لتطويع الطبيعة والعمل على خلق مناخات مناسبة لنمو تلك النباتات تراعي مقاييس الحرارة، والرطوبة اللازمة لها، وذلك ضمن قاعات زجاجية ضخمة.. حيث يمكننا مشاهدة بعض النباتات الصحراوية، والاستوائية تنمو داخلها وكأنها في بيئتها الطبيعية تماماً. 

حان موعد العودة، وكان التعب قد نال منا بعد هذا النهار الطويل.! عدنا الى حيث ركنا السيارة مشياً على الأقدام. وكنا نمني النفس باستراحة قصيرة قبل الانطلاق، لكننا وجدنا ان ذلك سيؤجل وصولنا الى نيويورك الى ما بعد منتصف الليل. ففضلنا الانطلاق دون أي تأخير.

السكون الذي سيطر علينا داخل السيارة مع حلول الظلام وانسياب الموسيقى الكلاسيكية الهادئة من راديو السيارة، سمح لي باستعادة شريط هذا النهار الطويل. كما تسنى لي إجراء مقارنة سريعة وعامة بين الحياة في مدينة نيويورك، وبينها في العاصمة واشنطن دي سي وكان أولها؛ ان واشنطن هي اقل صخباً وازدحاماً من نيويورك. والأمر الثاني والأهم؛ هو أن جميع الأماكن السياحية التي زرناها كان الدخول اليها بالمجان بما فيها متحف الفنون، ويو اس بوتانيك غاردن. وهذا غير متيسر في نيويورك بالتأكيد.!

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.