هيام علي الجاويش
اللوحة: الفنانة المصرية مادونا ناجي
صديقي..
عندما رأيتها صدفةٌ بعد غياب طويل قابلتني بابتسامة عريضة.. حتى تخال أن شدقيها سيلتقيان في الخلف وبأنك بحاجة إلى ملزمة (كماشة الحديد) لإعادتهما إلى وضعهما الطبيعي.لكنَّ صورة عيناها لم تنطبق على صورة شفتيها وشَعرتُ أنها شُطرتْ نصفين, واستغربت وجودها كما استغربت سلامها ومحادثتها لي.. فقد كانت منذ زمن خلا تغيّر طريقها عندما تراني.. بسبب قصة قديمة ستعرفها لاحقاً.. إلى هنا والأمر مقبول, لكن أن تعد بتلبية دعوتي ممتنّة فهذا هو غيّر المقبول, واعتبرته نوعاً من المجاملة فرضتها الصدفة.
لم يطل الزمن.. عدد قليل من الأيام وإذ هي بباب منزلي.. استقبلتها بكلّ حبور وترحاب.. لا يخلوان من الحذر والفضول وبعد أن استقرت الجلسة بنا، ومع اخر رشفة قهوة من فنجانها أطفأت سيجارتها وسقطت دمعة من عينيها ووشت شفتاها بما تحمل عيناها.. وَشت بهمٍّ يُثقل كاهلها، وهنا اكتملت الصورة أمام عينيّ، فقلت: “ما حدى مرتاح” وصمتُ لأنني لم أشأ أن أبدأ بأيّ حديث فما كان منها إلاّ أن تمالكت نفسها وبدأت حديثها مكررة قولي “ما حدى مرتاح”.. ما حدى مرتاح.. نعم كنت أظنّ أنني بزواجي سأرتاح فلم أرتاح وتركت ولم أرتح والآن أنا نادمة فسألتها.. على أيّ شيء نادمة أعلى زواجك؟ أم على طلاقك؟
فقالت: نادمة على الأثنين معاً، ونظرت إليّ نظرة مَنْ يبحث عن جوابٍ لسؤال لا يجرؤ على سؤاله، ثم شبكت كفيها على ركبتها واعتدلت في جلستها وقالت: يقول نقولاي استروفسكي في أحدى رواياته: “بقدر ما تمدّ جناحيك تنال من المدى”، وعندما رأت نظرة الدهشة في عينيّ.. تابعت كلامها.. بــِ لا, لا تستغربي لم ولن أصبح قارئة ولا أؤمن بكلّ هذه (الفزلكات) ولا أحبها وتخرّجت من الجامعة وأنا كارهة للكتب, حتى أنني لم أمسك كتاباً بعد تخرجي.. ولكن هذه عبارة سمعتها منه ذات يوم ورددّت عليها بــ “ليس مهم أن يكون لديك جناحين قويين وليس مهم أن يكون لديك مدى واسعٌ، المهم أن يكون لديك قدرة على التحليق والطيران”. وأظن أنني أصبت, وأن سألتني أجيبك , ولكن أجيبي على سؤالي أولاً هل قرأت كتابه الأخير أو ديوانه؟ وأجبت: كاذبة بنعم، فبادرتني بالقول إذاً ما رأيك؟ وهنا أربكت مردّدة في داخلي “الكذب عمره قصير”، وسألتها أيّ تقصدين، وما هو عنوانه؟ وهنا تفحّصتني بنظرةٍ أحسست أنها اخترقت عظامي وشعرت بأنني خرجت من مغطس كنت أظنه ساخنا لأدخل في مغطس أشد سخونة، إذ قالت: ها أنت متابعة لكل أعماله, لكن ليس هذا مهما الآن.. قد كان عنوانه “العاشقين”. وأكذب إن ادعيت بأنني قرأت الكتاب أو حتى رأيت غلافة لذلك اعتمت على عنوان الكتاب ومعرفتي بأسلوب الكاتب وعدم معرفتها لأجيبها:
نعم عنده صور جميلة ومشوّقة فهو يستطيع.. أن يجعلنا نتابع رحلة الخمر من الكروم حتى يصبح في الكؤوس، ونلهث وراء أبطاله في كلّ الأماكن والفصول، نستظل الشجر ونسهر تحت ضوء القمر ونمسح قطع الثلج عن جيننا، كما نمسح حبات العرق من حرّ الشمس وقد تتشقق أقدمانا من صخور الشواطئ وتكلّ من تسلق الجبال , وتتقطع أنفاسنا أثناء رحلتنا في السهول والوديان لقطف الزهور.. وملاحقة الفراشات الهاربة، ونختبئ في الكهوف عندما يباغتنا المطر ونعود متعبين من رحلة طويلة.. لكن بالنهاية هي صور ولا شيء غير ذلك، فأخذت من كلامي الجملة الأخيرة وقالت: نعم أنت قلتي لا شيء وهذا ما أريد أن أصل إليه ولكي تفهمي قصدي عليّ أن أبدأ من نقطة بدايته لأصل إلى نقطة بدايتي ونهايتي. وتتابع.. طبعاً أنت تعرفين بأنني كنت متعلقة به حد الجنون وفي حينها لم استطع أن أحدد مشاعره نحوي.. فقد كان يدنيني ويبعدني جاعلاً بيني وبينه خيطاً واهياً لا يُمكّنني من تقويته كما لا يُمكّنني من قطعه.. وأذكر تماماً اليوم الذي سافر فيه.. فقد أحسست بأن الظلام غلّف خيوط الشمس، طبعاً أنت تعلمين.. لقد سافر للعاصمة ليدرس في الجامعة، وأنت تعلمين وضعه المادي، فكان لابد من أن يعمل ليؤمن نفقات طعامه وسكنه ودراسته، في بادئ الأمر كان يمضي النهار بطوله باحثاً عن عمل وعندما يأتي الليل يجتمع مع أصحابه لتمضية الوقت ولعب الورق والتسكع في القهاوي، وطبعاً الدراسة من تأجيل إلى تأجيل آخر.
تعرّف من خلال أصحابه على صاحب جريدة, وصمم في نفسه أن يجد عملاً عنده، فقد طال انتظاره وطال مكوثه في العاصمة من دون أيّ تقدم أن كان في العمل أو في الدراسة. فإن لم يفلح في تأمين العمل عليه أن يعود إلى قريته خالي الوفاض. بعد يوم أو يومين.. ذهب عند صاحب الجريدة حاملاً معه قصيدة وقدم مبلغا من المال مقابل أن ينشر له القصيدة قائلاً: يسرّني ويشرفني أن تتكرمون بنشر قصيدتي فجريدتكم معروفة ومقروءة وتصل إلى شريحة واسعة من النخبة وهذا أمر يستحق التقدير والانحناء. لكن صاحب الجريدة والذي كان يعلم الوضع المادي للشاب فوجئ بالعرض, وطلب أن يقرأ القصيدة قبل نشرها. لكنه سرعان ما أصلح ما أفسده بقوله: نحن نفتخر بالشباب الناشئ، وهو ذخر للوطن وللجريدة وعلينا دعمه، ثم ألتقط النقود من على الطاولة وأعادها له قائلاً: خُذْ نقودك وإذا أحببت يمكنك أن تعمل معي مقابل أن أنشر لك. لكن الأخير أُصيب بخيبة أمل لأن الشاب رفض استعادة المال وطلب مهلة للتفكير ومهلة أخرى لترك العمل الذي يعمله كي يتفرغ للعمل في الجريدة في حال الموافقة، وخرج مودعاً إياه، ومن ثم توجه إلى صديقه طالباً منه استدانة مبلغ آخر من المال غير الذي استدانة في الصباح.. واعداً إياه بأن يعيد الدين كاملاً في مدة أقصاها أسبوع، بعد ذلك ذهب إلى محطة الانطلاق وقابل سائق حافلة القرية وحمّله مالاً وسلاماً إلى أهله يطمئنهم فيه عن الدراسة والعمل. وعاد إلى مكان إقامته الجديد في السكن الطلابي متعمداً أن يبتعد ثلاثة أيام عن أصحابه وعن صاحب الجريدة، وبعدها بات يتردد على المقهى لعله يرى صاحب الجريدة وطال به الحال على هذا المنوال.. إذاً ما هو الحل فقد مرّ الأسبوع الأول وتلاه الأسبوع الثاني, والمال قد نفذ وهو يجلس في المقهى يوميا ينتظر رؤية صاحب الجريدة “صدفة” وفكّر في نفسه باحثاً عن الطريقة المثلى لرؤية صاحب الجريدة دون أن يُشعرهُ بحاجته للعمل، إلاّ أن القدر خدمه في هذه اللحظة وإذ بصاحب الجريدة أمامه, سلّم عليه، وقال: أهلاً, أهلاً، الصدفة خير من ألف ميعاد، فكرر الآخرً الصدفة خير من ألف ميعاد، وكان كلاهما كاذب؛ لأن كلٍّ منهما يبحث عن الآخر، ويجد فيه صيداً ثميناً وكلٍّ منهما يشعر بأهميته للآخر، جلسا وتحدثا في كلّ شيء ما عدا العمل، وفي الحقيقة أحدثت هذه الصدفة المرتبة صدمة وخيبة أمل للأثنين لكن كانت خيبة صاحبنا أكبر، ها قد مرّ أسبوع ثالث فهل يستدينُ؟ وهو الذي استدان من جميع معارفه واعداً كلّ منهم بردّ الدين خلال أسبوع، أما خيبة صاحب الجريدة فكانت بسبب أنه لا يجد من يعمل معه بشروطه،وإن وجد أحداً ما فسرعان ما يطلب رفع أجرته مرّة تلو المرّة، ويغادره عندما يمارس العمل ويتقنه وذلك بسبب الكم الهائل من الأعمال الملقاة على عاتقه، بمعنى، كلاهما صياد وطريدة بنفس الوقت، ولكن في نهاية المطاف، “في الذي يده بالماء وفي الذي يدة في النار”، والذي يده في النار لملّم بعض القصاصات التي كتبها سابقاً وذهب إلى الجريدة “قبل الشحادة وبنتا”. واضعاً صاحب الجريدة تحت أمر واقع وهو بأنه ترك العمل الذي كان يعمله وتفرغ نهائياً للعمل في الجريدة، وبما أن صاحب الجريدة يعرف من أين تؤكل الكتف وشعر بأن الطريدة أصبحت في القفص، نظر إلى الأوراق دون أن يفتحها وقال: جريدتنا لا تنشر مثل هذه الأشياء وإذا أردت أن تعمل معي.. صمت قليلاً وفكّر.. “عليه أن يعلم منذ اللحظة الأولى عمله وإلا مع السلامة راح كتير وهو واحد منهم” ثم تابع.. مكرر جملته السابقة مؤكداً عليها إذا أردت أن تعمل معي عليك أن تكتب في أبواب وأعمدة لكن تحت عدة أسماء وأردف ستعرفها عندما تمارس العمل، كل اسم تجده في أعلى الباب أو أسفل العمود، الأمر الذي دفع صاحبنا للتردد المتصنع وليظهرً ثقافته ومعرفته ردّ باستغراب بأن كل باب يجب أن يكتب فيه مختص، لكن صاحب الجريدة ردّ بنفاذ صبر على تدخله الذي اعتبره سافراً محاولاً أن يبقي خيطاً رفيعاً ليعيده به،إذا قرر الشاب المغادرة وعدمالعمل حيث قال: اسمعني جيداً يبدو أنك لا تعرف السوق، هذا عمل أي استثمار.. ولو وضعنا لكلّ فقرة مختص لتوقف العمل وأُقفلت الجريدة منذ زمن بعيد.. ابتسم ولانت لهجته مضيفاً بأن الأهم من ذلك، أنه لا أحد يقرأ، جميع من يشترون الجريدة هم من المسافرين في محطات الانطلاق ويشترونها إما لقتل الوقت أو لإظهار الثقافة، وأن الأبواب التي تلاقي اهتماما هي فقط الأبراج والكلمات المتقاطعة ولا أبواب مقروءة غير ذلك.
نظرت إليّ وسألت ثم أجابت أتعتقدين أنه رفض؟ لا, لا لم يرفض بل وافق بشرط أن يكتب بالأبواب التي تناسبه وتناسب دراسته، هكذا بدأ بالعمل وبعد زمن ليس بطويل أظهر نشاطاً غير مألوف فحذف أبواباً وأضاف أبواباً جديدة وماذا أيضا؟ أيضا أتقن اللعبة فأصبح يكرر بعض الأعمدة مع تغيير في أسماء الأماكن وأسماء الأشخاص ويأخذ نصوصاً كاملة من مجلات وجرائد قديمة وغير معروفة وينشرها، وهذه أيضاً يعاد نشرها مع بعض التغيير المناسب, وأنشأ باباً لمساهمات القرّاء وباباً لمقترحاتهم وبات يغطّي معظم صفحات الجريدة بكتابات غيره.. فوفّر لنفسه ولصاحب الجريدة مالاً إضافياً وكان يظهر التفاني في العمل وخاصة أمام صاحب الجريدة فتوسم فيه هذا الأخير خيراً، وبات يدنيه أكثر فأكثر وقرّبه من أسرته وخاصةً ابنته الكبرى ليضرب عصفورين بحجرٍ واحد، العصفور الأول يضمن بقاءه واستمراره بالعمل في الجريدة, أما العصفور الثاني فهو زوج لابنته، لكن الشاب ضرب ثلاثة عصافير بحجرٍ واحد وأولهم استمرار العمل في الجريدة وثانيهم حصة في الجريدة حتى ولو كانت في شكلها العام حصة لزوجته أما ثالثهم وإن كانت العروس تكبره بثلاثة عشر عاماً فبالنهاية مسكن ومأكل ومشرب وحضن دافئ, مضمراً في نفسه أن يبقي على جميع علاقاته التي هي خارج إطار بيت الزوجية، لكن زوجته لم تكن عذراء وهذا ما أكتشفه في ليلة الزفاف , وعندما تجرأ وسألها بخجل عن عذريتها والتي لم تكن تعنيه لأن الزوجة ذاتها لم تكن تعنيه, لكن لا بد له أن يسأل، فأجابت بدلال وغنج وحزم: كنت أظنك تعرف, ولكن هل ما زال يوجد أحد يُفكّر بهذه العقلية؟ وإلى الآن هو لا يعرف ماذا كانت تظنه يعرف, فهل يعرف إنها مطلقة أم يعرف سهولة العلاقات غير الشرعية. ولم يتقصّ لأن الأمر لا يهمه من جهة ولأنه لا يجرؤ من جهة أخرى، ولكن كيف لم يسمع بهذا الأمر من أحد إن كانت على الشكل الأول؟ وكيف لم يلاحظ إذا كانت على الشكل الثاني وهو الذي يعتبر نفسه خبيراً، وهي التي كانت كثيراً ما تتردد على الجريدة, وتحشر أنفها في كلّ شيء؟
المهم.. بمّا أن زواجه لم يثمر بولد وهو لا يكترث لهذا الأمر السبب الذي أثار قلق الزوجة أضف إلى ذلك معرفتها بعلاقاته.لقد كانت معرفتها هذه محدودة.. فإن كانت تعلم بعلاقات النهار مع المعجبات والمثقفات فأنها لم تتيقّن من علاقات الليل مع ” اللابسات والشالحات” وبما أن زوجته ابنة أبيها فعليها أن تكون الرابحة بأيّ شكل وبأيّ ثمن وتحت أيّ مُسمى, لذلك لجأت إلى تزويجه تحت ناظرها وتحت سيطرتها, مصمّمة في نفسها: “ترحيل الدخيلة بعد أن تأتيه بثلاثة أولاد, وإن استطاعت الصبر فليكونوا أربعة، وستبذل جهدها لأن يكون حملّها توائم، وفي كلّ سنة حمل، أيّ على الأكثر سنتان وستسافر معه للسياحة مرتين أو ثلاث مرات في السنة وفي كل مرة تبعده شهرا أو شهرين. لذلك عليها من الآن تأمين وإعداد بديل عنه للعمل في الجريدة, ورتّبت الموضوع برمّته واختارت البديل في العمل واختارت فتاة بسيطة وفقيرة ووعدتها بالمال الوفير لها ولأسرتها وبأن صدر البيت لها والعتبة لِما سِواها، لكن بلا طول سيرة، فرّت تلك الزوجة بعقلها بلا مال تاركة صدر البيت المزعوم، لم تلد لأنها لم تحمل، أما هو فقد ترك الإثنتين بعد فترة ليست بطويلةٍ، وزاد من نشاطه خارج بيت الزوجية فلم يوّفر لا بيضاء ولا سمراء ولا مثقفة ولا جاهلة ولم يوّفر لا غانية ولا عفيفة ولكلًّ منهنّ مفتاح. المهم وصلت إلى نقطة بدايتي.. صديقي في رسالتي التالية أتم لك القصة.