الخيال المَقْهور

الخيال المَقْهور

اللوحة: الفنانة المغربية فاطمة طهوري

فيلم «عسل أسود» كان تجسيدا لمصر والمصريين في العصر الحديث، فيلم مكتوب بأقلام مُحْتَرِفَة وحسَّاسة ومُلْهَمة، حتى الأغاني التي أبدعها ستكون خالدة مثل الفيلم. وكان من الممكن أنْ أسير في الرَكْب وأكتفي بالإعجاب مثلما تُعجبني الزهرة على أغصانها، أشمّها وأنظر إليها كلما أردت أن ينتشر بوجداني السِر الذي أودعه الله فيها، ولكني لم أكتف بذلك وتأملت في الفيلم وعرضته على الوعي ومَسْطَرتي القِيَمِيَّة.

قمت بالتأمل في الفيلم والتفتيش فيه بعين ناقِدة، ثم تساءلت؛ ما هي الخلاصة التي حَقَنها الفيلم في وجدان المُشاهد؟، فوجدت الإجابة المدهشة هي أنَّ مصر رغم ما بها من أكوام من التناقضات والإهانات، ورغم ما بها من طَبقات مُتراكبة لا تُعد ولا تُحصى من الفَساد، ورغم ما بها من يأس مُطْبَق من اليوم والغد، فيها حاجة حلوة.. مثلما الخمر (المُعَتَّقة) وهذه الحاجة الحلوة هي التي جعلت الشاب (مِصري) يُصِر على حِلمه المهزوم، فيفتعل حيلة ليعود بالطائرة بجواز السفر الأمريكي إلى مصر، ويختار نار مصر على جنة أمريكا، علشان فيها حاجة حلوة.

هذه هي خلاصة الفيلم الرائع والمُدَغْدغ لكل أحاسيس المصري الضالة، مصر هي كما هي؛ وتأمَّلوا كلمات الأغنية المبهرة في دِقَّة وصِدق التعبيرات:

بالورقة والقلم

خدتينى 100 ألم

انا شفت فيكى مرمطة وعرفت مين اللى اتظلم

ليه اللى جايلك أجنبى

عارفة عليه تطبطبى

وتركّبى الوش الخشب وعلى اللى منك تقلبى

عارفة سواد العسل

أهو ده اللى حالك ليه وصل

ازاى قوليلى مكملة وكل ده فيكى حصل

يا بلد معاندة نفسها

يا كل حاجة وعكسها

ازاى وانا صبرى انتهى لسة بشوف فيكى أمل

طرداك وهى بتحضنك

وهو ده اللى يجننك

بلد ماتعرف لو ساكنها والا هى بتسكنك

بتسرقك وتسلفك

ظلماك وبرضه بتنصفك

ازاى فى حضنك ملمومين وانتى على حالك كده

ورغم هذا الوصف الذي لا يوجد له وصف في كوكب الأرض في تناقضه وفساده؛ إلا أنَّ فيها حاجة حلوة واقبلوها كما هي، فلا أمل في التغيير ولا تُفكروا في أي حلم، لأنَّه لو تغيرت سوف تزول النَكْهة الحلوة، فالحاجة الحلوة هي أكسير نتج من تراكم القِمامة المصرية وتَعَفّنها.. هذه هي عيِّنة للأفلام المصرية الناجحة فنيا وعن استحقاق، فماذا عن الأفلام الأجنبية التي هي حرة بلا حدود وفي جميع الاتجاهات؟

في الأفلام الأجنبية، الغني قد يتزوج البغي حين يحبها؛ لأنه يكتشف فيها جمالا لم تستطع مهنتها أنْ تلوِّثه، الإنسان يَخترق الزمان ويحيا في المستقبل والماضي، الخيال بلا حدود ويُلهِم العلم والمجتمع والفِكر، أما عندنا؛ المرأة التي تُخطئ لا بد أن يَقتلها أبوها أو أخوها أو تموت في حادثة كعقاب من السماء لها، أو يستيقظ ضمير المُعتدي ويتزوجها في القِسم ثم يُغلق على مأساتها الباب، المهندس لا بد أن يتزوج مهندسة والطبيب يتزوج طبيبة، الشرطي لا بد أنْ يقول للمواطن النملة: “يا روح أمك” ويَضربه ويهينه.

الثري بقوته الطاغية وصِلاته بالفاسدين؛ يَقهر البنت فتستسلم له أو يَقهر المواطن فيكون له مَداسا أو قُربانا، الموظف لا بد ان يَرتَشي حتى نكون واقعيين؛ لا بد أن يَتلفظ الشباب والشابات بأوسخ الألفاظ، وتَنْفلت منهم دوما تلميحات جِنسية تتلوها ضَحِكات ماجنة، أهل الحارات لا بد أن يكونوا سداح مداح وكَبْت مُنْفلت وأخلاق سائلة، انتقلنا من الواقعية للهبوط بلا قاع، فقدنا الحلم وفقدنا النشيد.

لماذا لا تُنتج أفلام وتؤلف روايات وتكتب مقالات تَحلم بتغيير الواقع وتجسِّده أمامنا؟ يكون الشرطي فيها إنسانا، والموظف نَزيها، والمسؤول شريفا وحكيما والإنسان كريما مُكرَّما! تَنْشر الحب بين كل الناس بدلا من إثارة الأحقاد الطَبَقية، تبسط يد الرحمة بين الناس وخاصة من أعلى إلى أسفل، لا بد من أن يبدأ أحدنا بإطلاق خياله وترتيل نشيده الذي تسع كلماته وأحلامه كل الناس.

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.