اللوحة: الفنان الأسترالية كيت روجرز
محمد محمود غدية

أتعبته الحياة وحملته جراحات عميقة وهزائم، حتى أنه لم يعد بالقلب متسع لأحزان أخرى، عن سؤال الأصدقاء المتكرر والذي ألفه، في عدم زواجه وهو الأربعيني الميسور والمأسور بعشق النساء؟ يجيب أن الحب يرقق الحنين في الأرواح ويجلي الحواس، أشبه بالأقمار والنجوم التي يتطلع إليها المرء، الزواج هو الحفرة التي يقع فيها المحب وهو ينظر إلى القمر، لا يتوقف عن الإبحار في عالم الأساطير القديمة.
أثناء نوبة عمله بالمستشفى العام، استقبل امرأة ينتابها الإعياء، تبدو كالآلهة القدامى يافعة وباسقة، تفتحت كل أغصانها بأوراق يانعة، عيناها واسعتان يحار المرء في تحديد لونهما، يتساءل مدهوشا من أي عالم أتت، وأي آلهة أرسلتها إلى هنا؟!
امتثلت للشفاء بعد جرعة الدواء التي أعطاها لها الطبيب، مأسورا بحلو حديثها، استطاعت أن تقيم بداخله معبدا للجمال الداخل إليه لابد أن يكون حافي القدمين هامس الصوت، عليه أن يستمسك بتلك اللحظة الفارقة، يكبرها بخمس سنوات، أخبرته أنها أستاذة مساعدة في كلية نظرية لم تتزوج بعد، طلب هاتفها للتوصية بصديق له بعد أن راقت له، علما أنه لا توصية ولا صديق لديه، شكرته على عنايته وغادرت، ظلت حاضرة بابتسامتها التي تحولت لآلاف الفراشات الملونة والمحلقة حوله.
هاتف المرأة الاستثناء التي اختصرت كل النساء في واحدة، إننا مع القضاء والقدر في ثلاث، حين نولد ونحب ونموت، أجمل الحب هو ذلك الذي نعثر عليه فجأة، توافقا وتحابا ووقع معها عقدا للزواج غير مشروط، مازال لديه الكثير ليستمتع بكل ما بقي من زيت في سراج حياته قبل الانطفاء.
الرصيف الموازي للحزن
الرغبة في الكتابة تعادل الرغبة في الحياة، الألم وحده سبب يدفعك لنزف الجرح على الورق، دون إغفال تفاصيل المشاعر التي تضربك فجأة.
أيامه المتوهجة مع حبيبته، بردت وتقلصت واستكانت في زاوية من نفسه، جميلة إلى حد التوحش، طلب منها أن تقص أظافرها الطويلة، حتى لا تنبش جرحه وينزف الدم، بعد أن اختارت غيره، لا ذنب له في رحيل والده، بعد صراع طويل مع المرض، كان لا بد له بطرق أبواب العمل، لإطعام والدته وإخوته الصغار، وتغيير مساره الجامعي من الانتظام للانتساب. إنها الحياة التي تجعلك ترتاب في منطق الأشياء، آخر لقاء لهما قابلته بعواطف جليدية، بعد موافقتها على العريس الجاهز، ضاربة بالحب عرض الحائط، لأن الحب لا يفتح بيت حسب قولها، قطرات المطر الغزيرة ترقص رقصة الوداع على أسفلت الطريق، يشرب غربته كل يوم مع شأى الصباح، صرير قلمه على الورق، يخدش سكينة الصمت، الكتابة هي الملجأ والمهرب من قسوة غيابها، وكل الطرق تؤدي إليها.
فازت، مجموعته القصصية، تداعيات موت مفاجئ بالنشر الإقليمي، كانت بمثابة القمر الذى يسكب فضته، على ظلمة الحياة فيضيئها، رآها تجلس على نفس الطاولة بالمقهى الذى كان يجمعهما، ترى هل ترسم حلمها القادم، أم تتآسى على حبهما الذى أجهضته؟
– لا يدري!
نادى على نادل المقهى دون أن تراه وطلب منه أن يعطى حبيبته التي يعرفها، كتابه الفائز بالنشر.
من بعيد شاهدها تقلب فيه، وعند أول صندوق قمامة صادفها ألقت به وانصرفت، يتضخم بداخله الوجع وينكسر الحلم، يلتقط كتابه من صندوق القمامة، ويمضي إلى الرصيف الموازي للحزن.