اللوحة: الفنان الأميركي جون برامبيلت
تطلعت دقيقة للهدوء القابع على أنفاس الخلق المارين بالشارع، ثم أغلقتُ نافذة غرفتي، أحكمت كوفية صوفية حول رقبتي، قلت بنبرة صوتية مسموعة: أقبل الشتاء قبل موعده بأشهر كثيرة هذا العام، ثم عُدت إلى ضيفي، سألته إن كان يرغب في فنجان قهوة آخر!
غير أنه أعرض عن ضيافتي، قال: الشتاء بدأ جغرافيًا قبل أيام، لكن الجو لا يزال دافئًا على رغم أنّا في يناير.
فأعدت عليه ما قلت من قبل: أن البرودة قارصة، لا يعنيني حر الصيف ولا رطوبته الخانقة. أنا أرتجف منذ بعيد، لا تسعفني أغطية صوفية ولا غيرها.
تشاغل بالنظر في شاشة هاتفه فترة، ثم رفع رأسه إليّ، قال: أنت مسكين. تذهب بإرادتك إلى طريق الجنون، لا أحد يستحق الرثاء الآن.
تجاهلتُ تعريضه بمشاعري، سألته: تُرى هل تستمر البرودة الشديدة هذه فترة طويلة؟
اعتدل في جلسته، أنزل ساقه من على أختها، وضع سيجارته التي لم يشعلها أبدًا على منفضة كريستالية موجودة على طاولة أمامه، قال: كنت تتغنّى بهذا الفصل قبل سنوات قليلة، حتى أنك كنت تجاهر بعشقك للبرد، أن تسير في منتصف الليل وأزرار قميصك مفتوحة كلها، ثم يصل صلفك مداه “في عنفوان طوبة” بأن ترفع عقيرتك بالغناء حتى أذان الفجر، لم تعبأ بأحد سواء مريض أو تلميذ أو عامل مجهد عائد من عمله. أتذكر ذلك؟!
ابتسمتُ على مضض من حديثه، تذكرت ما قال، تداعت على بالي حوادث أخرى أشد، تثير السخرية والضحك إن رٌويت الآن!
لملمت وقاري، أجبته: ليس على السكران من حرج. فالخمر يذهب بالعقل.
ضحك بسخرية مؤلمة أدركت ما وراءها، قال: بل نشوة الحب يقتلها الصقيع. لكن ثق أن الزمهرير هنا يعني دفء في بقعة أخرى من العالم.
قلت له وأنا أنهي زيارته، أصحبه للخارج إذ لم أعد أطيق سخف تلميحاته: أصبت يا هذا، البدايات دائمًا ساحرة قوية، كفى بها. راقبته من خلف شيش النافذة حتى غاب في الظلام وكلماته تلسعني كضربات سوط تهوي على ظهري العاري: ” زمهرير هنا، دفء في مكان آخر”.
