الخازوق

الخازوق

هيام علي الجاويش

اللوحة: الفنان المصري وليد عبيد 

صديقي، أتذكر آخر كلام لنا؟ عندما قلت لك: لا تتلاعب بالألفاظ، السفر غربة، فقلت لي: غربة نعم لكن إذا كان بلا هدف وغربة إذا كان طويلاً، أيّ انظري إلى الجانب الذي أنظر منه وشاهدي النصف الذي أشاهده لا إلى النصف الفارغ وأيُّ عمل مهما كان لا بدّ له من وجهان على مبدأ الجهات والتناظر والتماثل، فمثلاً الورقة حين تُرمى بالنهر تكون فضلات وتلوث النهر ولا بدّ أن تغرق، وهذه الورقة ذاتها إذا جعلناها على شكل زورق، تعبر عن الجمال وهي دعوة للمسافر لأن يعود، ولا بدّ أن تستقر على الشاطئ. فقلت لك: أنت تركب قطار الحياة, حيث لا محطات قريبة، رحلتك طويلة وهي تعبر عن الحياة، فأجبتني: لا, لا تعبر عن الحياة إنما محطات في الحياة ولأجل الحياة.

صديقي، منذ ذلك الوقت أخذت كلامك ومن حينها أصنع زوارقاً صغيرة وأرميها في النهر لعلك تعود، لكنك أخذت كلامي، واعتبرت أن القطار رحلة حياة طويلة زدّ على ذلك أنها رحلة ذهاب دون إياب.. صديقي، كنّا صغار وكانت أحلامنا كبيرة، حلمنا بالحياة والحرية وبالعمل وبالحب والتضحية,حلمنا بالمشاركة والجدّ واللعب. 

كنتَ تقول لي: لو أن البقرة تطير كيف سنحلبها؟ تضحك أنت وأسكت أنا، ثمّ أقول متحدّية: لو كانت عجلات العربات مرّبعة كيف سنركبها؟ وأضحك أنا وتسكت أنت، ثمّ تقول لي: لو أنك نمتِ الآن وأتت بعوضة وأزعجتك ماذا تفعلين؟ فقلت بهدوءٍ وبكلمات ممطوطة كي اتيح لك فرصة للتفكير: أحضر سريرا، وأغطيه بيضاءَ، ثمّ أضع موسيقا هادئة، وأسرعت بالكلام، 

أجعل البعوضة تنام ثمّ أزعجها، أتذكّر يومها كم ضحكتَ, لقد ضحكت كما لم تضحك يوماً 

ولم أدر لماذا ضحكت؟ أكان على فكرتي؟ أم كان عليّ لأنني صغيرة ولم أقل: حمقاء لو أنني نمتُ وأنت معي؟ فتقول: لو نضب الماء ماذا سيحدث؟ أقول: سنعطش ونتسخ، تضحك وتقول: لا يا ذكية ستموت زنبقيات أمك، فٌأقول متحدّية: ماذا لو كان علينا في كلّ صباح شراء الحروف التي سنستعملها كلّ يوم؟ فتقول: نشتري، وأسأل: ماذا لو ندر حرف وطُرح في السوق بسعرٍ أغلى؟ فتجيب: طبعاً نسكت. فأقول: لا, لا نشتريه بدل الخبز. وأسأل ماذا لو نضب حرف من السوق ماذا سيحدث فتقول: الآن نسكت. فأردّ:اما حزرت، ستتحد النساء وتقوم بمظاهراتٍ مطالبة بتأمين الحرف وإلاّ ستسقط حكومات، فتقول: طبعاً هذا لا ينطبق عليكِ فأن لم تتكلمي بلسانك, تكّلمتِ بيديكِ وعينيك. ونضحك معاً.

كبرنا يا صديقي وصَغُرتْ أحلامنا، ثمّ تكسّرت رغم صغرها. طارت البقرة وضاع الحليب، ولم نركب العربة بل ركبنا على العجلات وأيّ عجلات؟ العجلات الثلاثية! ودائماً لا يرتكز الركوب إلاّ على الرأس أي على.. وفهمك كافٍ! ولمْ نفقد حرفاً، بل فقدنا لغة بأكملها، فقدنا لغة الحوار، أما لغة الثرثرة فازدهرت وانتعشت، تسأل لماذا؟ ببساطة لأن الرجال تبّنوا هذه التجارة، نعم, نعم هكذا أصبح حال الرجال في بلادي، وأقول بلادي لأنني أشك بأنها ما زالت بلادك، وأشك بأنك ما زلت تباهي بها بأنها بلاد الشمس، قد يكون من الخوف أو من الخجل أو بسبب جنسيتك الجديدة, ومعك كل الحقّ، لكن بالرغم من هذا سأحدّثك عن بلاد الشمس، عن بلادي!

صديقي في بلادي، زاد القيل والقال وقلّ الفعال، كَثُرَ السؤال وقلّ العطاء، قلَّ الجمال وقُتلت المروءة، قلّ الشرف وقُتلت النخوة، وكَثُرتْ عمليات الشفط والنفخ والاجهاض، والرتق، كثرَ أولاد النهار(الزنى) وقلّ أولاد الليل (الحلال).. كثرَ الكلام وقلت رجولة الرجال، والنساء؟ النساء لم يعدنّ إناثاً، لقد اختلط عليهنّ وضع الرجال، وكذلك أصبحن ضلعاً مكسوراً عدا عن الناقص، النساء ما زلنّ يُضربنّ في بلادي، وما زلنّ يجبرنّ على الزواج، وما زلنّ يحرمنّ من التعليم.، صديقي، بلادي أصبحت بلاد الصقيع لا بلاد الشمس، انتفخت فيها جيوب حفنة من المارقين والمُسيرين للقوانين، وتشققت أيدي البقية في رحلة البحث عن الرغيف!

صديقي أين أنت يا صديقي؟ أراسلك ولا ترد على رسائلي، لماذا أوهم نفسي بأنك ما زلت صديقي، ربّما أنت مَنْ شارك الحياة صفعتي، وربّما أنت مَنْ ساهم في قتل الحب، وقد تكون أنت مَنْ غدر بي وشارك في صنع العجلات الثلاثية، وربّما أنت من أحتجز اللغة واحتكرها

ولماذا أقول ربّما! مؤكد أنك أنت، وأنت مثلهم ومنهم أو أنت هم، أما أنا فيجب أن اعترف بالهزيمة أمام نفسي لأنني لم استطع أن اصبح منكم، ثمّ اعترف بالهزيمة أمامكم لأنكم الأقوى والغلبة للقوي وليس للحق، أو لنقل الحقُ معكم وأصبح إلى جانبكم وأنا لي كفاحي.

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.