شَرِبَ فَسكرنا 

شَرِبَ فَسكرنا 

هيام علي الجاويش

اللوحة: الفنان الفرنسي إدوارد مانيه

في البدء دعني أوضح أمراً، نعم أعترف أنني حاولت التخلص منه، وأقرّ بأنني طلبت منك أن تقول لي كيف أستطيع قتله والتخلص منه، ولكن, لكن أقسم لك، بأنني لم أقتله، وأقسم بأني لم أتخلص منه، أو للحق أقول بأني لم أستطع التخلص منه! وأقسم بالله العظيم، باني كلما أخرجته مع هواء الزفير، كان يدخل مع هواء الشهيق، ولكن مَنْ قتله؟ وكيف مات عند البعض؟ فلا تسألني لأن هذا أمرٌ أجهله وأقسم على ذلك، والآن هل تسمح لي أن أبدأ رسالتي، وهل تسمح مجدداً أن أدعوك صديقي؟

صديقي:

لا بدّ أن أحدثك عنه، إنه هو، هو لا ابن عمك ولا ابن خالك ولا تربطك به صداقة ولا زمالة ولا حتى معرفة، هو ابن بلدك لكن لا بدّ أن تعرف عنه بعض ما أعرف وبما عرفه الناس. وينضم هو إلى الأهل والصحبة على الشرفة في ليلة قمراء، لمشاركتهم السهر والانتعاش ببرودة المساء بعد يوم حار أمضاه متّنقلاً بين الغرف، على الحاسب والجوال والتلفاز، جلس بجسده الذي لم تتعود عضلاته على التقلص إلاّ لتنقّله ولطعامه أما عضلات وجهه فكانت كثيراً ما تتقلص للضحك والتثاؤب فقط، ثمّ أحضر زجاجة أو زجاجتين وكأساً واحدة قائلاً: مَنْ أراد أن يشرب فليحضر كأساً، ورغم تنبيه الأهل له خوفاً عليه من السكر ردّ كعادته قائلاً:أنا لا أسكر!

سكب الكأس الأول وشربها رشفةً رشفة، وعندما أفرغ آخر رشفة في جوفه، دخل في موجة من الضحك.. نظر إلى ساعته وبحث عن جواله فلم يجد شيئاً وبدأ يهذي ويغني فقدت ساعتي وجوالي، ويضحك ثم يضحك ويضحك مرددّاً، أضعت الساعة وأضعت الجوال،سكب الكأس الثاني بعناد أشدّ موزّعاً نظرات التحدّي على الجميع، فكيف لهم أن يقولوا الذي قالوه، فهو لا يسكر، وأخذ الكأس عل دفعتين، مص شفتيه وابتلع لعابه، أغمض عينيه وفتحهما، ثمّ نظر إلى الأعلى وكم كانت دهشته كبيرة وبات ينبه الجميع إلى ما وجد،أحمد أنظر هناك, هناك 

سمير أنظر هناك إلى السماء. رنيم انظري إلى السماء، أمي أبي أنظرا لقد وجدت قمراً، ثمّ خفض رأسه إلى أسفل وإذ بشهقة تخرج من صدره صارخاً، أضعت الساعة والجوال ولقيت في حجري قمراً، قمراً أحمر، ودخل في نوبات من الضحك والبكاء مرددّاً أضعت الساعة وأضعت الجوال ولقيتُ قمراً ونجماً وغداً سأجد شمساً، وعندما تدّخل البعض لثنيه عن الشراب هددّ بتكسير رأسه بالزجاجة التي كان يحملها. وسكب الكأس الثالث وأفرغها دفعة واحدة، أما عندما سكب الكأس الرابعة لم يتسنَّى له إفراغها في جوفه لأنه كان قد أفرغ من جوفه كلّ ما كان قد سكبه سابقاً، ودخل في موجة من البكاء، وأخذ يهذي بمواقف مزعجة ومؤلمة تعرض لها سابقاً. 

حملوه وأدخلوه إلى الداخل ووضعوه في فراشه، وبقيت أمه عند قدميه بعيدةً عن ناظريه تنتظر حتى يهدأ وينام.أما أبوه فقام إلى الزجاجات وأفرغها كي لا يجد شيئاً يحتسيه عندما يستيقظ مؤكّداً أن لا شراب بعد اليوم، وفي الصباح أستيقظ تعباً منزعجاً مكّذبا كلّ ما قيل له عن تصرفاته وهذيانه، وأصرّ على موقفه بأنه، لا يسكر. فما كان من أحدهم إلاّ أن قدّم له مقطع الفيديو الذي سجله عنه ليلة الأمس، ومن ذاك الوقت قطع عهداً بأنه لن يتذوق الشراب.

صديقي: إن تكن تسألني عن مدى التزامه بالوعد الذي قطعه، فإننا لا نعلم إلى أيّ حد ألتزم بهذا الوعد، ولكن الذي نعلمه بأننا لم نره على حالة مشابهة للحالة التي ذكرتها، ويقيناً بأنه أن كان يشرب فإنه كان لا يكثر، ويقيناً أكثر بأنه أن لم يكن يتجرّع الكؤوس بمشيئته، فقد كانت الحياة هي من تجرعه إياها كأساً, كأساً، وكلما كان يصبو لأن تكون آخر كأس، كانت الحياة تجرعه كأساً آخر، ومع هذه الكؤوس كان يشتد عوده ويقوى وتشتد عضلاته وتتقلص عضلات وجهه لكل ما هو في الحياة. ورغم كل معاناته وفقده أمه والمعيل ورغم مرض أخيه ورغم الحادث الذي تعرض له ورغم، ورغم، ورغم هذا كله وعلى مدى السنوات العشرة الأخيرة استطاع أن يدرس ونال الشهادة الثانوية، لكنه لم يستطع دخول الجامعة لتداخل الظروف، فعوّض ذلك بانضمامه إلى أعرق الصفوف وأصبح فرداً، لقد انضمّ إلى المؤسسة العسكرية وأصبح فرداً من أفراد الجيش وحامي حدود الوطن، وسكن حيثُ عمله في المدينة.

لقد أنتقل إلى مدينة الظرفاء ألاّ تعرفها؟ لا, لا تقل أنك لا تعرف حمص الذكية والأبية، الفتية والعريقة، حمص العاصي وخالد ابن الوليد. ولن أطيل عليك، نحن أهلها نختصر تسميتها بمدينة المجانين، ولا نملك نحن ولا تملك أنت إلاّ أن تبتسم عندما تسمع بحمص، المهم عمل وسكن وتزوج واستقر في تلك المدينة, لكن جذوره بقيت في قريته وبيته الذي كان لآبيه، وقلّما كان يمرّ اسبوع دون أن يأتي للقرية سواء كان لديه عمل في الأرض أو إن لم يكن،

وعندما لا يأتي، كان يأتينا صوته عبر سماعة الهاتف صاخباً مجلجلاً بضحكة ملّونة بألوان الربيع. ولكن عند سقوط أولى قطرات السماء، يأتي صوته مع ضحكة ملوّنة بألوان قوس قزح سائلا كيف الأمطار عندكم؟ وعندما يأتيه الجواب بأنها جيدة، يضحك ضحكة مدوّية حتى ليخال إليك أنها تأتي من خلفك وليس من سماعة الهاتف،فتكذّب أذنيك كي لا تلتفت إلى الوراء، ويسأل مجدداً: إذاً شربت العريشة والياسمينة؟ فأقول: نعم ومجدداً يقول منتشيا: يا الله, يا الله وشربت التينة والجورية و.. فأضحك وأقطع كلامه قائلة: نعم، والزيتونة وكلّ شيء حتى العليق والشوك. تعال وانظر، إن الأمطار تسقط (كزخ الرصاص) وهل يمكن للسماء إلاّ أن توزع خيراتها على الجميع. يضحك ويقول: نعم أعرف ذلك ولكن لأسمع منك وأفرح أكثر.

وتغير الحال وقُلب الموال، واصبحنا نحن نتصل لنسأل عن أمطارهم، فقبل ذهابنا إلى المدينة نتصل بدون ضحكة إن كانت بألوان أو بغير ألوان سائلين عن الأوضاع فيأتي جوابه، بعد نصف ساعة أو ساعة أعطيكم الجواب سأجوب الطرقات العامة وأخبركم (وإنشا الله خير)، أو يقول إياكم والقدوم فإن (الرصاص كزخ المطر) أيّ زخ وأيّ مطر وأيّ رصاص؟ أن من يحمل الموت بأدواته فأنه لا يوزع محتوياتها بالتساوي، إنما من يكون نصيبه وافرُ يأخذ حصة، ولكن الحصص الأوفر لحماة الديار ولقوى الأمن وللوطنيين وللمتعلمين موتهم انتقائي لا كخير السماء.

صديقي، أتدري ما الذي حدث؟ لم يحدث شيء فقط انقطعت أخباره، ولم تعد تأتينا ضحكته الملوّنة بألوان الربيع أو بألوان قوس قزح، إنما أتانا هو ملفوفاً بألوانٍ أربع، البعض قال: طلقة في الرأس،وبعضهم قال: ذُبح ونكلّ به، وآخرون قالوا: خُطفَ وعُذب حتى الموت وغيرهم قالوا: خُطف وقُطّع حيّاً،وآخرون قالوا: أحرقوه حيّاً. يا الله! ماذا يمكننا أن نفعل وما الذي يمكننا قوله، ولكن طلقة في الرأس؟ ليتها كانت طلقة في الرأس! إذ لكان موته رحيماً. لكن لماذا يا حمص؟ أين ظُرفاؤك؟ هل غادروكِ أم انهم تحوّلوا؟ حمص، هل هؤلاء ظرفاؤك حقاً, حقاً! أم أنك استقدمت الغرباء؟ هل يمكن للإنسان أن يكون أشدُّ فتكاً من الحيوان وملوّنا كالحرباء؟ هل حقاً مات الحب عندهم؟ وبطريقه أخذ الرحمة والرأفة ليعمّ الفناء؟ هل هم حقاً مجانين؟هل يعرفون أديان السماء أيدينون بغير دين المال والنساء؟هل حليب أمهاتهم ولبائهم ماء؟ أيعرفون طعم الملح والوفاء؟هل عرفوا معنى الوطن والإخاء؟ وشاهدوا العلم يخفق بالسماء، أيخافون الله ويوم الحساب؟ هل حقاً سمعوا كلمة الله أكبر؟ أم إنهم هم الأكبر؟ أم أن ميزان الحق أختّل عندهم ويطمحون باختلاله في السماء؟ الويل لهم فبأي حد من حدود الله الدماء يسفكون؟ الويل لهم من يومٍ عظيم, يومٌ ربَّ العالمين فيه يَلقون، أم إنهم بهذا اليوم مُكّذبون؟ ولقاء ربهم لا يرجون، وعليه هم مستكبرون. 

صديقي: أسئلة جميعها تحتاج إلى أجوبةٍ ولكنني سأجيب عن سؤال سُؤل سابقاً ولم نعرف جوابه، السؤال هل شَرب بعد تلك الليلة القمراء؟ أقول لا أعلم إلاّ بآخر كأس شربها وكما يقول هو: هو لا يسكر، ولكنه عندما شَربَ الكاس الأخيرة أسكَرنا، شَربَ هو، فثملنا نحن!

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.