اللوحة: الفنان المصري صلاح عناني
عندما نتحدث في الموبايل، يَحدث أحيانا أنْ يكون الصوت المستقبَل ضعيفا، فيقوم الإنسان غريزيا برفع الصوت، فينزعج مَنْ حوله، وعندما يُخبرهم بالسبب، يوبّخوه ساخرين: الآخَر هو الذي يَجب أن يَرفع صوته لا أنت، ويضحك الجميع من هذا الموقف الطريف.
في الثمانينيات، حدث في مصر انتقال وتبادل أماكن في الطبقات الاجتماعية نتيجة سفر الحِرَفِيِّين والصنايعية للخارج، فأصبحت تلك الطَبقة هي القادرة على دفع ثمن التذكرة لحضور المَسرحيات والحفلات الغنائية، فكان الانضباط مُنْفلت، وحل محل التصفيق المنضبط؛ الصراخ والصَفير والكلمات العارية، وكان هذا يُربك المُمثل أو المُغني. في حديث إذاعي مع الفنان عبد المنعم مدبولي، سألته المذيعة: كيف تتصرف حين يَصْخب الجمهور ويُغَطِّي على الحِوار في المسرحية؟ قال: عندما يرتفع صوت الجمهور أخفض أنا صوتي، اندهشت المذيعة وتَعجَّبت منْ هذا الجواب المُخالف للتوقع، فقال: هذه هي الوسيلة الأكيدة لاسترجاع هدوء الجمهور في أسرع وقت، فحين أخفض صوتي يقوم الجمهور نفسه بمعالجة المشكلة؛ يقول بعضهم لبعض: لو سمحت أريد أنْ أستمع للمسرحية، فلو رفعت صوتي لزاد نشاط الجمهور وزايد برفع صوته.. بهذا الجواب أدْركت أهمية الخِبْرة في كل مجالات الحياة، وتأكد عندي أهمية أنْ أحرص على سماع خبرة أي إنسان في الحياة، فلا بد أنَّه يملك خبرة خاصة مفيدة، يُذَكّرني هذا بفؤاد المهندس زميله ورفيقه في عالم الكوميديا، كان زواج فؤاد المهندس من شويكار يُعد من الزيجات النادرة في الوسط الفني، حيث كان الطلاق السريع هو الأصل بين الأزواج من الفنانين، والأسباب الشائعة هي: تسرب الملل والمنافسة وتعارض الطموح بين أصحاب المهنة الواحدة.
عُرض سيناريو مسرحية ريا وسكينة على شويكار، فطلبت المشورة من فؤاد المهندس، فقال لها: أعتقد يا شويكار أنَّه من الصعب جدا أنْ تنجح مسرحية تكون البطلة سفاحة، صعب أنْ يتعاطف معها الجمهور، فاستمعت لنصيحته ورفضت، وحلت محلها الفنانة شادية؛ ثم كان النجاح الهائل الذي تألمت شويكار لضياعه منها، فألقت اللوم على فؤاد المهندس، ولما حدث الطلاق بين الزوجين المحسودين، بعد زواج استمر عشرين عاما، وفي لقاء مع فؤاد المهندس وسؤاله عن هذا الخبر الفاجع؛ لم يتحدث عن السبب مباشرة؛ ولكن أجاب بأن حَكى عن نفسه شيئا غريبا، لا يمكن أن أنساه، قال: أنا أحب أتدلع، ولازم حد يدلعني ويمدحني، ولما أحس إني جوعان دلع؛ أتجه للمرايا وأنظر لنفسي، وأفضل أقول: يا واد يا فؤاد ياللي مفيش منك، إيه الجمال ده، وإيه الوسامة دي؟ وأظل أثني على نفسي بالحق والباطل، وعندما كانت تراه زوجته شويكار، وتنظر إلى ما مَدح به نفسه وتقارنه بساقه المُنْحنية وعَجِيزته المضحكة وبَطنه المترهلة، كانت تضحك منه ويضحكا معا.. هذا الرد من المهندس يُعَبِّر عن فَقْر الإنسان المُزمن للتقدير ولو عن مجاملة، والثغرة واضحة في زواج الفنانين، فكلاهما مدمنو تلقٍ للمديح، وهذا هو عالم الفن.
من المعروف أنَّ الفنان أشرف عبد الباقي الذي اختفى عن الحياة الفنية لسنوات ثم ظهر مع تبنيه مشروع مسرح مصر، سألته إعلامية في لقاء مذاع عن السبب وراء تلك الخطوة، فما كان منه إلا أنْ قال: جلست في بيتي أعواما ولم يُعْرَض عليّ عمل فني يناسبني، وكنت ألزم البيت، وكان ابني يسألني: لماذا يا أبي لا تذهب للعمل مثل كل آباء أصدقائي؟ ففكرت طويلا وبعمق، وقلت لنفسي: بالفعل يجب على الآباء أن يخرجوا من بيتهم صباحا للعمل ثم يعودوا، فقررت أنْ أعمل مسرح مصر، كي أخرج كل صباح أمام ابني!
استمعت له وأنا مَشْدوه من بساطته وصِدقه بل وشجاعته، فهي نفس الصفة التي تُميزه هو وكل فنان مبدع، ثم سرحت بفكري وأنا أتفق معه في أنَّ النجاح قرين البساطة والصراحة، النجاح عدو العقد النفسية، وكلما كان الإنسان واضحا وصريحا ومتواضعا؛ كلما كان أقرب للناس وأسرع إلى احتلال قلوبهم.
