اللوحة: الفنان العراقي سيروان باران
وضعت يميني على صدري، يساري رفعتها في الهواء كصاري سفينة تبحث عن مهرب من إعصار يلاحقها منذ أن أبحرتْ. لقد حاكمت نفسي قبل أن يحاكمني أحد، اصطنعت منصة قضاء من خيالي، وقفت قبالتها وأقسمت اليمين لمن لم أرهم ولا أعرفهم.. قلت بجفاء: من لا يملك غير الحقيقة، لا يرغب إلّا في غلق صفحة كاد الهواء أن يمزقها: يا سادتي، قبل ثلاثة أعوام، كان البحر هائجًا حتى كأن مدّه لن يعقبه جزر أبدًا، استيقظ بركان خامل من فترة بعيدة، ارتفعت شظاياه حتى عنان السماء، لكم كنت ألهو جواره مع رفاق ونظنه آمنًا! أجزم أن الأرض بعدما التقيت تلك المرأة لم تكن هي ما نعرفها أو نشأنا عليها.
عنفوان لم أشهد مثله من قبل، خلت أن القيامة على الأبواب، أن ساعتي اقتربت، فالصورة رائقة رائعة شديدة الوضوح وذلك أمر لم أعهده في الحياة من قبل، قلت لنفسي آنذاك: تلك هي العلامات التي يراها من يقترب من آخرته، رؤى الصالحين قبيل رحيلهم، إذ تتكشف أمام المرء منهم المغاليق وتنفتح أمامه كل الأبواب الموصدة.. كذلك قلت: لمَ لا؟ فساعة كهذه بكل ما سبق من عمر، لكنّي بعد تتابع السنون، وجدت أن الطوفان قد انحسر ببطء للوراء، انطفأت بأعماقي نار كسرى، انطمرت فوّهة البركان وعاد سيرته الأولى، تسكنه الهوام، تبيت فيه الضباع. ارتدّ كل شيء لأصله؛ لذلك لم أجد حرجًا أن أراجع بعد عودتي كل خططي الحربية السابقة، أعيد النظر في انتصاراتي التي يتغنّى بها القوم.. وقفت بمنتصف الغرفة، زعقت بأعلى صوت: لمَ الهزيمة الآن على الأبواب؟ أدري أن ثمة خطأ ما لكني لا أعرف ما هو، متى وقع؟
لمّا أعياني التفكير، لم أجد سبيلا للوصول، نزعت عن جسدي بدلة القيادة، ألقيت على الأرض كل النياشين التي تزيّن صدري منذ خمسين عامًا، يتردد صوت العقل بداخلي، قائلًا: خير لك أن تنسحب مبكّرًا، فلا طاقة لك بالهزيمة، تقهقر قبل أن يُقضى عليك، تراجع تكتيكيًّا للخلف قبل أن تؤتي من حيث لا تحتسب.. لا أخجل أن أقول إن الخوف يتملّكني، شعور لم أحسّه قبلًا، مرّ في الحلق، يترك خلفه حشرجة في الصدر، غير أني تمالكت بعض نفسي، دوّنت كل ما حصل بالتفصيل. لم أنس أن أداعب آخر حرف كنت على وشك أن أرسله لها، أودعته برفق بين صفحات دفتري، ثم وضعت كتابي تحت وسادتي.
ألقيت دون اكتراث نظرة أخيرة على المحتويات المبعثرة على الأرض، بينما رائحة الهزيمة العطنة تتسلل إليّ من بين فُرُجات شيش النافذة، من تحت عقب الباب، تعبّق الغرفة، تحجب الرؤية، تطغى على أهازيج النصر الغابرة.
