النَقْص جوهر الاكتمال

النَقْص جوهر الاكتمال

اللوحة: الفنان الإيراني رضـا عباسي

ربما منحت وقتا لم يتح لغيري في متابعة السينما – خاصة المصرية – وما تنتجه من أفلام أجدني متوقفا عند أحداثها؛ لما تقدمه من إسقاطات وارتباط بالمجتمع، ومنها فيلم (مبروك وبلبل) الذي أعده من روائع السينما المصرية، حيث يبرز في الفيلم شخصيتان: الأول مبروك، وهو شاب لا يتمتع بقوى عقلية جيدة « عبيط» كما يطلق على أمثاله في مصر، لكنه يملك جسدا طبيعيا وسليما، ولديه ميراث معقول يساعده على العيش، الثانية: بلبل، وهي فتاة ليل، تحيا على استهلاك جسدها، وقد تعبت من الإهانة والمشقة والحياة غير المستقرة.

الفتى العبيط كان مكتمل الذكورة، ومتيسرا ماليا، وينقصه فقط العقل! والفتاة الجميلة العاقلة، مجروحة في سمعتها، ويتعذر زواجها من رجل يتقبل سترها والإنفاق عليها، فتزوجت الغانية من العبيط، واحتمت بمميزاته، ولم يزعجها نقائصه، بل لم تشعر أنها ينقصها شيء، وعاشا في سعادة، لكن مشكلة الفتاة كانت مستحيلة حيث تكمن سعادتها مع هذا الإنسان الذي يستهين به الناس، ومشكلة الفتى كانت مستحيلة، ففحولته ستؤدي به إلى أفعال شائنة ويتسبب في اضطراب بين الناس، فكانت سعادته مع تلك المرأة اليائسة.هذه هي خلاصة الفيلم، التي بنيت أحداثه على تلك المفارقة، ولو كان سيناريو الفيلم أنَّ امرأة جميلة تتزوج شخصا عبيطا؛ لفشل الفيلم وفقد جوهره ومعقوليته – في نظري – فالشاب ينقصه أهم جوهر وهو العقل، لذا فلا بد من إيداع نقص في الفتاة يعادل النقص الذي في الشاب، وهكذا يجب أن نفهم الدنيا.

هناك ظاهرة مشتركة في كل المجتمعات وهي، أننا لا نتنازل إلا حين نفقد شيئا، وربما أشياء، يظل الغرور سائدا ومتحكما حتى تبدأ سلسلة النقص أو الفقد أو العجز، ولو تسللنا إلى الدماغ العربي لوجدناه خاضعا لبرنامج عنصري طبقي، فالحالة الوحيدة المعقولة التي يتيسر لنا مشاهدة زفاف شاب إلى أرملة تكبره وربما لها أولاد، حين يتوفى الأخ، فيتطوع أخوه الشاب بتحريض من العائلة ليتزوج أرملة أخيه، وقتها لن ينظر أحد إلى فارق السن ولا المؤهل ولا العذرية، فالحدث فَرَضَ عليهم إجراء يعيد التوازن إلى الأسرة التي رحل عائلها.

سبق لي أن حضرت زفافا لابن صديقي، ووصفت هذا الزفاف بالشجاع والحكيم، شاب حديث التخرج تزوج من سيدة مطلقة تكبره سنا ولها طفل، وعندما تعجبت، أجابني صديقي بأنها جارة لهم في السكن، ولما وجدني ما زلت محتفظا بدهشتي وأنتظر مزيد تبرير، قال: سأخبرك بالسر، هذا أصغر أبنائي، ولأننا نعرف إمكاناته، قررنا هذا الزواج، فابني لم ينضج بعد، ولقد قمنا بتدليله ونَمَت شخصيته برعونة فأصبح في حاجة إلى من يدعمه ويحتويه، سوف ينفعه الزواج ممن تحمل صفات ومهام الزوجة والأم في نفس الوقت، ولو تزوج فتاة من عمره أو تصغره فسوف تفشل العلاقة، ولكان شقاق وطلاق وما يتبعهما، ولأني وزوجتي نعرف إمكاناته، اتفقنا على ذلك الزواج، فعرضنا عليه الفكرة ووافق، وأعتقد أن زوجته تملك من التجربة والنضج ما يجعلها تدعمه وتسعده.

وها قد مرت سنوات عشر والزواج ناجح ومثمر والكل سعيد! لقد كان تصرف صديقي نادرا وحكيما، ولهذا خلقت الحكمة، كي توفر علينا جِراح التجارب الفاشلة، ولنستفيد من الفروق بيننا، ووقتها سوف تتحول تلك الفروق من عيب إلى ميزة؛ فالله تعالى لم يخلقنا لنتطابق ولكن لنتكامل، ولا نتكامل إلا بنقص.

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.