رفيق بلا رفاق 

رفيق بلا رفاق 

هيام علي الجاويش

اللوحة: الفنانة السورية ريم الأحمد

صديقي.. أتذكر النكتة التي فيها يخاف الشاب من كل دجاجة، لانه يتخيل نفسه حبة قمح؟ وفيها أيضا أن الشاب مقتنع أنه إنسان، لكن من يقنع الدجاجة بأنه ليس حبة قمح؟

هذه النكتة التي كنا نضحك عليها، هي صلب مأساتنا، مساكييين نحن مساكين، وكل واحد منا لديه حبة القمح هذه فإما أن تتضخم وتغلف حياته وإما أن تبقى على حجمها ويغلفها ويحشرها في زاوية ما من نفسه، أو لنقل نحن الدقيق بل ودقيق الدقيق. نشعر بأننا صغار وصغار جدا في هذا العالم لكن أي مكان على الأرض مهما كان كبيرا لا يتسع لنا، ونتمنى أن نشق نفقا في باطن الأرض ونتوارى فيه عن أنفسنا وعن بقية المخلوقات. 

مخنوقون نحن حتى بالهواء الذي نتفسه ومقيدون بحريتنا، وفي نفس الوقت، مغرورون، متكبرون، أنانيون، متجبرون، جاحدون مارقون نحن في السراء،

أذلاء في الضراء، نحن حملنا أمانة السماوات والأرض والجبال أبين أن يحملنها واشفقن من حملها، كم نحن واهمون بائسون جاهلون ظالمون! انوفنا تطول لكثرة كذبنا، والسننا تتفرع وتنشطر كألسن الزواحف،اذرعنا تتكاثر لنتفوق على الأخطبوط، ألواننا تتغير كتغير ألوان الحرباء، حقدنا حقد جمل، وموطئ قدمنا موطئ قدم فيل، نمتاز بعضة كلب،ورفسة بغل، ومكر ثعلب، ونهيقنا يعلو على نهيق الحمار، خفافيش ليل نحن مصاصو دماء. لا نجيد الطيران ولا السباحة نجيد القفز من مكان لآخر ومن موقف لآخر ومن فكرة لأخرى كالقرود.ونختبى بدفن رؤسنا في الرمال كالنعام،لا نعرف الأسد ولا النمر ولم نسمع بالنسر ولا النورس نحتقر الغزال والفراشات. نعرف كل المشاعر ولانجيد منها إلا الخبيث، لدينا منازل تفننا في تشييدها ولكنها هي بمثابة جحور كريهة كسكانها، افكار بالية عقول صدئة عورات ظاهرة، نأمر بالمعروف ظاهراً ونقوم بالمنكر سرا، وندعي المدنية والحضارة، ونطلب من الله الرحمة أي بشر نحن؟

لكل حيوان صفة ذميمة يختص بها، وتميزه عن غيره، ونحن نختص ونبدع بكل الصفات الحيوانية ولا نفشل إلا بالصفات الإنسانية، لكن والله مساكين، نحن مغرورن حتى بربنا الكريم،«يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم الذي خلقك فسواك فعدلك» ونتجرأ أن نطلب منه الرحمة، ونتجرأ بعدم الامتنان والشكر على نعمه. حقا مساكين،لاننا ضعاف و لان الحياة طاحونة كبيرة كبيرة وكبيرة جدا تطحن كل ما تقدر عليه ولا تبالي بأحد ولا يستعصي عليها أحد، إلا العيون والقلوب المتحجرة فتلك تحدث ندوبا في الطاحونة وتخرج سليمة.

 كان رفيقا بلا رفاق وكان كالماء، أي شيء يغير طعمه أن كان حلوا أو مرا أو مالحا وكل لون يعكر صفوه مهما كان ومهما كانت درجة اللون، فهو فعلا كالماء. قبل المغيب بساعة كانت الشمس ترسل خيوطها على وجنتي وعيني رفيق فبانت قسماته هادئة ومريحة وكانت عيناه تعكس صفاء روحه وطيبة قلبه. في تلك الأثناء مر أصحابه وراح يراقبهم، عندما تجاوزه وهم في طريقهم إلى المكان المخصص للعبهم بالكرة وردد كل منهم بدوره دعوته لمشاركتهم اللعب، إلا أن أساريره كانت أكثر تجهما وانقباضا، لاحظت أمه التعب على محياه فسألته عنحاله فذكر لها ما كان من رفاقه. قالت أمه ولدي حبيبي ما هي مشكلتك طالما دعوك لمشاركتهم اللعب هيا حبيبي قم وشاطر رفاقك اللعب، لكن رفيق اوضح لها بأنهم يسخرون منه لكنها نفت هذا الأمر وحثته على اللحاق بهم واللعب معهم قائلة :هم رفاقك ويحبونك وأنا أراك وأراهم من موقعي هذا.

نفذ رفيق رغبة أمه ورغبته أيضا.. عند وصوله إليهم تناولوه باللكز واللمز والتعليقات المهينة مطلقون عبارات مثل: انتبهوا ستصبحون غبارا – اليوم لن يفوز أحد منكم سيبطحكم رفيق أرضا – لا أحد يتحدى رفيق اختاروا اللعبة التي تريدون وسترون كيف ستهزمون! لكن عندما لاح لهم وجود أمه على شرفة منزلها ومراقبتها لهم تركوا رفيق، ورمى أحدهم الكرة بعد أن أخذها من رفيق وبدأوا باللعب.

كان رفيق يتحرك على غير هدى فإن ارتطمت بقدمه الكرة أيضا ضربها على غير هدى فهو كان عبئا على الفريقين ولم يكن منضما إلى أي منهما. اقتربت الشمس من المغيب ورجع كل واحد إلى منزله إلا رفيق، بقي يركل الكرة ويعلو صراخه وركضه وانبطاحه على الكرة إلى أن نادته أمه.عاد إلى البيت متعبا منهك القوى أغتسل وبدل ثيابه وبات يسرد على أمه كيف كان يلعب وكيف كان يضرب الكرة، وكيف صد كرة وكيف أدخل هدفا، حركت الأم رأسها وقالت بتألم تمام بني لقد أصبح عندك أصحاب.

مرت أيام عدة وهو يتحدث لأبيه وينتشي ويكرر لأمه حديثه ولاخوته أيضا كيف كان يلعب وقد قال أحدهم عنه بأنه نمر ويلعب جيدا إلى أن حان يوم العطلة وأتى رفاقه ومروا من أمام بيته ولم يلتفت أحد منهم إليه، فما كان منه إلا أن أخذ الكرة ولحق بهم. وبما أنهم يملكون كرة منعوه من مشاركتهم ومن دخول الملعب، حتى أن بعضهم صرخ في وجهه وكاد يضربه، فبقي متجمدا مكانه وحزينا لعل يلتفت أحدهم إليه ويدعوه. وعندما ذهب الجميع بقي هو مكانه فألتفت إليه وسيم وقال له ارم الكرة يارفيق فانفرجت أساريرة وضرب الكرة، تبادلا عدة ضربات وذهب كل أحد لبيته قبل حلول الظلام. عاد إلى البيت وسرد لأمه الذي حدث معه،غير مهتم إلا لوسيم الذي تقاذف معه الكرة، شعرت الأم بانزعاج شديد لبساطة ولدها ولمعاملة رفاقه معه، وفكرت بأن هؤلاء أطفال وهم نتاج تربية أمهاتهم، فيمكن زرع أي فكرة في نفوسهم، ويجب أن ينتشر الخير كما ينتشر الشر، فتولدت لديها فكرة وهي أن تساعد ابنها في أن يتقرب من رفاقه وبنفس الوقت تحاول أن يتقبل الرفاق ولدها، قالت لا بأس بني، الأسبوع القادم عيد ميلادك أدع رفاقك للاحتفال معك.

في اليوم التالي دعا رفيق هؤلاء الفتية لعيد ميلاده وعند مرورهم من أمام البيت كررت الأم الدعوة وأصرت عليهم بالحضور.. في يوم عيد ميلاده أعدت كل ما يمكنها أن تعد من مأكولات ومشروبات وحلويات عدا عن هذا أحضرت لهم هدايا، فربما تساعد هذه الخطوة ابنها أن يتقرب منهم وأن يتقبلوه معهم، ولم تخف سعادتها عندما رأت تغير معاملة الأولاد مع أبنها، لكن لم يكن بالإمكان أن يعتبروه واحد منهم، فكرت، لا بأس على الاقل هو يعتبر نفسه واحدا منهم، وهذا شيء جيد من أجل صحته النفسية، وبنفس الوقت اختفت من أعينهم تلك النظرة الشيطانية، لكن حل محلها نظرة التكلف من مرافقة ابنها. فكرت.. هي لا تستطيع أن تعد وليمة لكل رفاقه أو لكل من تعرف وبنفس الوقت لا تستطيع أن تحارب كل من يقدم له الأذى فبعض النفوس قد جبلت على الشر والأذى، فتوقفت عن كل ما قامت به أو يمكن أن تقوم به، وبدأت مع ابنها خطوة خطوة: تعال بني يجب أن تعي الحياة، ليس كل من قال كلمة طيبة هو صادق فربما مجاملة أو مصلحة، ولا يجب علينا أن نتضايق من كل كلمة أو موقف سيء فربما طبع عندهم أو غيرة. فيجب أن تكون قويا ولا تنتظر من أحد أن يقويك، دافع عن نفسك ولا تتسول الاهتمام، اعتزل من يؤذيك وأحب من يحبك. ورويدا رويدا نصب قامته فمن أحبه أهلا وسهلا به ومن لم يحبه لم يعد يتجرأ على أذيته، ثم قالت: اليك بالخير بني ظاهره وباطنه، فإن لم تستطع فلا تفعل الشر. وتذكر أن الطريق وعرة وملئ بالعثرات إن كانت معقوقات أو كانت مغريات، ليس مطلوبا منك أن تزيل كل الأحجار والاشواك، فقط امط الأذى، ولا يحق لك أن تقطف جميع الورود، فقط ورودك بني. لا تأكل من طعام لم تدع إليه ولا تجلس في مجلس غير مرغوب بك.

ولا تجر مع القطيع حتى ولو وراء غزالة فالعلة تكون فيهم أو في الغزالة، فقط اجر لهدفك. اقترب من رفاق الخير وابتعد عن رفاق السوء.. كانوا يقولون إن لم تكن ذئباً أكلتك الذئاب. هل هذا القول حصاد حياة وتجربة؟ أم ثقافة مجتمع الكل خائف من الكل.. الكل يقص جوانح الكل،غير مدركين بأن أشواكا ستنبت بدل الريش؟ لماذا لا نستبدل القول كن إنسانا وإذا لم تستطع فلا تكن ذئباً، دعوا لكل جانحيه يحلق بهما ولينشغل بنفسه بدل انشغاله بأذى الآخرين وإثبات نفسه بالتفوق عليهم.. وبمساعدة أمه وأسرته أصبح لرفيق رفاقا: نفسه وروحه وذاته وربه، وكل ماعدا ذلك أشياء خارجية لا تضر ولا تنفع، فمن كان جيداً أضاف له ومن كان سيئا لم ينقص منه.

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.