قطار السكر

قطار السكر

محمد نديم علي

اللوحة: الفنان الأميركي ديفيد توتويلر

الأزمة تشتد. التجار هم السبب.

– السكر روح البيت.

– الله يرحم أيام كنا نحلي الشاي بقطع الحلوى.

– الحرب.. يا إخواننا.. الحرب.

– يا عم الحروب وقفت من أربعين سنة.

– العالم كله حرب.. والان هم انطلقوا.

– الله يرحم أيام جدتك.. كانت تزورنا وفي عباءتها أقماع السكر.

– الحكومة ساكتة ليه؟

– الحكومة تقول أنتم السبب.. بطلوا تخلفوا عمال على بطال.

– يعني نعيش رهبان وما نخلفش؟

– اللهم اكفنا شر الغلاء.

– الطمع سيودينا في داهية.

– لازم نتقي ربنا عشان يفرجها علينا.

– بل يغلقون المصانع، ويطردوا العمال، من أجل عيون المستوردين.

***

 كانت عبارات الركاب وأحاديثهم تتناثر على مسامعي، وقد امتلأ الميكروباص إلا مقعدا، أصر السائق الغضوب أن ينتظر راكبه المحتمل.

***

خط سكة حديد قديم متهالك، يفصل المدينة القديمة إلى شطرين؛ شمالي وجنوبي، وفي الشطرين بيوت وأسواق وزحام، وعربات وحمير، ومشاة وركبان، ومتاجر وضجيج.

***

تسير الحياة سيرها الطبيعي؛ صاخبة بالضجيج والغبار. إلا عند مرور ذلك القطار البطيء، فيتم غلق المزلقان. فتختنق تلك المدينة القديمة، القريبة من الحقول المزروعة بقصب السكر منذ ما يزيد عن المائة عام. يتهادى القطار ببطء كحية كسول، بعربات صندوقية مكشوفة محملة بأعواد القصب من المزارع الغربية، إلى حيث مصنع السكر في الجهة الشرقية.

وفي مروره الممل، يصبح القصب عرضة لأيدي المارة والمنتظرين، فيسحب البعض ما يراه ناشزا أو بارزا من أعواد لذيذة.

ولم نكن كتلاميذ صغار، ننتظر بسعادة بالغة، سوى مرور ذلك القطار، وليغلق طرفي المدينة، أو لتتعطل مدارسنا، فذلك أمر لا يهمنا.

***

القطار ينسرب بطيئا، بطيئا، وعلى جانبي السكة، تتدفق الحشود بكل تكويناتها لتستقر على حافة المزلقان، كتلتان متواجهتان. شمس الضحى الحنون، سرعان ما بدأت في إشعال نار الظهيرة بهمة بالغة، استعدادا لمنتصف نهار صيفي جنوبي رهيب.

***

كنت في سيارة الأجرة إلى جانب السائق.

دخان البنزين الذي يرتد إلى داخل السيارة، التي كانت في حالة شرقان، وسير متقطع. يندفع بعدها من فم السائق سيل من السباب:

-.. على أبوكي واللي صنعك. كانت السيارة تعاني في صمت دون أن ترد.

بعض الركاب يصرخ:

–  خنقتنا منك لله.

هم بالنزول.. طالبه السائق بالأجرة. دفعها بغضب.. وأتحفه بدعوات لله أن يخرب بيته.

– اللي ينزل يدفع الأجرة.. العربية تحركت خلاص.

صمت الجميع، ولاذوا ببعضهم، ليصبحوا ككتلة من الضفادع الخانعة، في قاع مستنقع موحل.

***

على اليمين من جانب المزلقان، عربة كارو كبيرة، من الواضح أنها مستقرة هناك منذ زمان بعيد في الماضي، وأصبحت جزءا ثابتا غير قابل للحراك، في تلك البقعة الجغرافية الجنوبية، الواقعة شرق النيل العظيم؛ فهي مقر لبيع الخضروات، حيث تكدست الأقفاص؛ وأكوام منها الأخضر ومنها الأحمر، ومنها الطري ومنها اليابس.

فوقها امرأة ترضع صغيرتها، تحتها صغير آخر يقضي حاجته في التراب.

فصلني عن المنظر، موتوسيكل انحشر فجأة في الفراغ، عليه قائده، من الواضح أنه نجار، وخلفه صبي متسخ، يحمل إطارا خشبيا لشباك محتمل.

***

ما زال السائق يكيل السباب لموتور السيارة، وهو يحاول إبقاءه دائرا. ولما سألته متعجبا، لماذا تصر على تشغيله رغم توقفنا  أجاب بحنق

– ماهو لو معملتش كدة حيطفي خالص ومش حيقوم.

همهمات الركاب ودعواتهم الهامسة، تختلط بأنفاسنا ورائحة ما اشتروا من فاكهة وطعام. المكان فرن.

***

القطار يمر بعربات القصب بطيئا، تصدر عجلاته صريرا عجيبا، يغيظني ذلك الصرير، أقسم أن القطار يقصدني بذلك! وهناك على الجانب الآخر من المزلقان، كانت الحشود الراجلة والراكبة، تندفع نحو الممر، استعدادا للعبور.

على يسارنا، عربجي صغير يقف على عربة خشبية، جلبابه البني، قصير حتى ركبتيه، إذ ربطه إلى خصره بحبل غليظ، ممسكا بلجام حماره، فبدا كأنه محارب بدائي على عجلة حربية متهالكة، جاءنا الآن من حضارة سحيقة، ليشاركنا أيامنا البائسة.

حاول أن يتجاوزنا، فصار رأس حماره وقدماه أمام مقدمة سيارتنا. وتأزم الموقف.

وخلق مشهد مسرحي هزلي جديد، أبطاله سائقنا بسبابه المحترف، ومحاربنا القديم يرد السب بأبشع منه، وموتور السيارة الذي يقيئ دخانه في وجوهنا. وهمهمات الركاب، وبكاء صغير مع أمه، في آخر مقعد، قربت وجهه من النافذة، ربما يناله بعض النسيم.

كان يلعق مصاصة ملونة، تشاركه في فعاليته الطفولية الحبيبة، ذبابة عابرة.

***

الحشود المتواجهة يزداد تراكمها، في مواجهتنا، على الجانب الآخر من المزلقان، كتلة من العربات، والمركبات، والبشر الراكبون، والراجلون، وعدد لا بأس به من الحمير.

 والظهيرة تلقي بشمسها لتلفح الوجوه والظهور والحديد.

تعجبت كيف سيكون الحال، لحظة فتح المزلقان، لا مجال سوى للصدام بالمواجهة، لا أحد يترك فرصة لغيره بالمرور. الجميع يقرر وحده، ويحدد وجهته، وكأن أحدا لا يشاركه المكان. الصدام واقع لا محالة. لا أحد يسمع، ولا أحد يرتدع. فلن تنال من نصيحتك لهم سوى السب الفاحش. أو التهديد الفاجر.

كان القطار يعرف طريقه، ويبتعد إلى حيث مصنع السكر، وتوشك آخر العربات أن تغادر المكان!

يا إلهي! كيف ستكون لحظة المواجهة مع فتح المزلقان؟ الله أعلم!

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.