اللوحة: الفنان الإيطالي أومبرتو بوكيوني
محمد محمود غدية

زارني أبي في الحلم، لم أفلح في إخفاء قدح الحزن من فوق الطاولة، كنت قد تناولت منه رشفتين، المرارة ما زالت عالقة في الحلق.
مشتاق لوجه أبي الطيب وكلامه العذب وابتسامته التي لا تفارقه ومسبحته الكهرمان، معذرة يا نهراً من طيب العنبر لفوضى المكان، لابد وأنك مررت بهذه الفوضى في الخارج أثناء قدومك هنا، لا تدهش لتبدل الإنسان في هذا الزمان، لم يعد الصديق يزور الصديق للاطمئنان على الصحة، والأبناء تفرقوا وتباعدوا!
الصديق يزور الصديق لبث الهموم وشكوى الزمان.
هذه القصاصات المتناثرة على الطاولة وفي الزوايا، أدفع بها لبعض الصحف والمجلات، رغبة في مشاركة الأشياء والتأملات كي لا أموت، وأدفع بمثلها في سلة المهملات.
كيف دخلت يا أبى من باب البستان، والبستان منذ رحيلك مغلق! معذرة للسؤال؟
لأنك في أغصان هذا الكون مثل تدفق الأمطار تفتح أفاق الخصوبة، تدفع بين الناس الكلم الطيب والمودات، وتريح النفس من العداوات،
الهم نصف الهرم يطاردنا كما يطارد الضوء الحارق الفراشات، محشورين في قطار طويل يتأهب للرحيل، تذهلنا الحياة بمنطقها المفاجىء وغير المتوقع
– نعم يا أبى: ينبغي مواجهاتها دون التعمق في فهمها!
يسألني أبى الطيب:
لماذا لم تتزوج بعد وفاة الزوجة وعن الأبناء؟
لم أجبه..
وأضاف قائلا: المرأة يا ولدى هي الأمان، وفرملة الرجل التي تحول بينه وبين السقوط، في براثن الوحشة
أسمعت أبى كلمات الشاعر خليل حاوي:
إني أموت / مضغة تافهة / في جوف حوت.
قال أبى: أتبحث عن موت تشتريه، لأنك ترى العيش كريه، لا خير فيه!
من يبذر الشوك يجني الوجع، ازرع المعروف تحصد الخير، مائة صديق قليل وعدو واحد كثير، أبغض العداوات وأغنم المودات، ما أجملها عطايا السماء للزرع والإنسان وكل الكائنات.
يعاود أبى السؤال عن الأبناء: أأخبره عن هواتفهم المتباعدة، وكيف يمر العام دون أن ألقاهم رغم أن الكلمات تشكلت في جمل صحيحة ووصلت إلى فمي ودورها لساني بين أسناني، إلا أنني لم أجرؤ على لفظها! لكن أبى الشيخ الطيب، قرأ الجواب في دمعات عيني التي انهمرت كالمطر، ثم غاب.