حول «هنا القاهرة» لحامد الشريف

حول «هنا القاهرة» لحامد الشريف

اللوحة: القاهرة للفنان الفرنسي جان ليون جيروم

حين التقى كاتب مغمور، الأديب الآيرلندي “جورج برنارد شو”، صاح بوجهه: أنت يا سيدي تكتب سعيًا وراء المال. فرّد ” شو” بكل هدوء: وأنت عمّا تبحث؟ فقال الكاتب: أسعى وراء المجد والشرف. فكانت إجابة جورج برنارد شو، التي صارت دستورًا لكل من يمسك القلم: كلّ منّا يبحث عمّا ينقصه.

ما أردته بالطُرفة السابقة ليس انتقاصٍ من قدر المبدع حامد الشريف، أو أن أعرِّض بمؤلفه “هنا القاهرة”، بل لأشير لجزئية على قدر كبير من الأهمية إن لم تكن هي الأهم في حياة أي كاتب أو مبدع، وهي أن كل منّا فعلًا يكتب وهو يسعى وراء شيء ما، وما حياة المرء على الأرض إلّا جملة من النقائص والنقائض في آن واحد. 

وما أمسك أحد بقلم إلّا وكان لعقله الباطني، موروثه الثقافي والمجتمعي النصيب الأوفر في التأثير على مُنتجه الأدبي. لا يملك المرء فكاكًا من تأثير الداخل العميق بعقله، المخفي عن الأعين، يظل صامتًا حتى يكتب، فإن خطّ بيده نصًا بان ما بأعماقه، ظهر جليًّا للناس، حتى وإن توارى خلف راوي عليم أو بطل يصنعه على عينه.

 نحن نتفق على أن النص – أي نص – وليد عراك وجدل يحتدمان بنفسية وعقل الكاتب، يمتزجان معًا ومعه، ساعات أو أيام أو أسابيع وربما أطول من هذا، حتى يُخرج لنا قصة أو رواية أو ما بينهما. بالتالي لا يمكن فصل النص هنا عن مُنتجه، وإلّا كانت الرؤية مبتسرة، قاصرة مشوّهة المعنى. 

تتعاظم هذه الفكرة – الربط بين القصة والقاص- حين نلتقي مُنتجًا أدبيًا يرصد خلاله القاص تجربته في بلد أخرى، غير بلده الأصلي، يتفاعل من الخارج مع ثقافة يراها فقط من خلال التلفاز والسينما، أو من زاوية أضيق أنثروبولوجية وأقصد بها، حين يلتقي ويتعامل مع بعض من أفراد هذا المجتمع مباشرة بحكم العلاقة بين ربّ عمل وساع وراء الرزق لضيق الحال في بلده.

الحديث عن “هنا القاهرة” يدعو لكثير من صراحة في الرأي، النبش في أعماق الكاتب، لتفسير دلالات كثيرة وردت في متون قصصه في المجموعة.

“هنا القاهرة” للروائي حامد الشريف، تضم ثماني عشرة قصة، جميعها تدور حول تجربة حياتية عاشها الكاتب في القاهرة، ومدنًا تقع على أطرافها.

بدأ رحلته بنزعة أنثربولوجية متجذرة بأعماقه، نشير في عُجالة إلى أن “الأنثروبولوجي” كعلم نشأ منذ قرون قليلة، عُني بدراسة المجتمعات البشرية من وجهة نظر البلدان الصناعية الاستعمارية الوليدة الباحثة عن الثروة بأي شكل وثمن، تطوّرت ببعض التهذيب والتأديب إلى ما يسمى بأدب الرحلات.

 وإن كان الزمن قد تجاوز هذا النوع من الأدب لانفتاح السماوات والعوالم بفعل تقنيات المعلومات وقدرات الشبكة العنكبوتية التي أتاحت كل شبر في الأرض بين أيدينا دون عناء، ودون أن نتأثر برؤية من يكتب.

غير أن حامد الشريف أتى للقاهرة يحمل في جعبته الكثير من الموروث الخليجي عن المجتمع المصري، بخاصة القاهرة، القلق الداخلي حيال المصريين، يحمل بيمينه كاميرا، فقدها في نهاية رحلته أو لعلها سُرقت كما يظن.

لم تكن رحلته بين دروب العاصمة عبثًا أو عفوية، بقدر ما حرّكه عقله الباطن، موروثه الثقافي القديم، المتصارع مع قشرة حداثة مبهرة ومتوهجة وآخذة في النمو بمجتمعه، يحق له البحث عمّا يؤكد وجهة نظره كما أشرنا في حكاية برنارد شو مع الكاتب المغمور.

الحديث عن عنوان المجموعة، الصادرة عن دار نشر “جدل”، سبتمبر 2023، يدفعنا دفعًا للجوء للعلامة جمال حمدان، خير من كتب عن مصر والقاهرة، يقول د جمال حمدان، في كتابه “القاهرة”.. أن القاهرة ضمن العواصم العظمى في العالم، وهي المدينة الأولى – مطلقة – في قطاع هائل متصل من العالم القديم قد يجاوز ثُلث مساحته وربما يتعدى آفاق القارة الإفريقية إلى تخوم أوروبا ووسط آسيا.

نتوقف قليلًا لنتدبر ما يقوله حمدان، ثم نعود إليه لنقرأ: بالنظر للوزن الحضاري والنفوذ السياسي والوقع والإشعاع القومي والفكري، فما من عاصمة فيما نظن لها في دولتها ما للقاهرة من ثقل ومركزية طاغية وسيطرة وتوجيه. وهي من الناحية الكوزموبوليتانية، تضم جاليات وأجناس أجنبية، هي في المجمل عاصمة تستقطر وتستقطب روح الوطن وترمز إلى جوهر كيانه حضاريًا وماديًا وجغرافيا وتاريخيا،، ربما كما لا تفعل أو لا تقدر أن تفعله عاصمة أخرى. هي تاريخ مفعم مجمد، أو محفوظ، كل حجر فيها مشبّع بعبق الماضي وعَرَقِه، كل شبر فيها يحمل بصمات الإنسان.. هي التقاء دلتا الوادي بالصعيد في صرّته، موقع حتمي خالد.

عودة للشريف ومجموعته الرائعة “هنا القاهرة”، لم يجد في العاصمة والتي تصهر مصر كلها في بوتقة واحدة رهيبة الحجم والمساحة، تضم كل أطياف القوة الناعمة المصرية، تلاقي كل حضارات العالم وآثارها، لم يجد فيها غير ما رغب هو في أن يثبته لنفسه، مشاهدات سردية لا أظنها ترقى لعالم القصة القصيرة، أو هي حكايات كُتبت بمنطق الرواية، فجاءت كل منها – قصص المجموعة – خالية من الفكرة وراء العمل، مؤكدة على ظنون تدور في مخيّلة الكاتب عن مصر والقاهرة، نهاياتها كلها تناقض الإهداء الذي صدّر به حامد الشريف مجموعته.

الشاهد هنا.. الفارق كبير بين أن تكون مصريًا وتكتب عن مصر والقاهرة، تمزقها كيف شئت فأنت وقتها تضع عينك على عيوبها، تقول للناس ولنفسك: أن من هذا البلد، غيور عليها، أراها في منطقة أفضل مما هي عليه الآن. وبين أن تتمصّر في تفكيرك، تشرّح أوضاع مجتمع قاهري هو مؤقت بالضرورة، لتقول لنفسك ولبني جلدتك: أنظروا يا قوم ما هي عليه وما أصبحنا نحن الآن عليه.

كلمة أخيرة أهمس بها في أذن الروائي الرائع، الصديق العزيز: حامد الشريف. لا تغضب مما كتبت عن “هنا القاهرة”، لا تظن أنيّ أعرّض بها أو أرغب في النيل منها ومنك، أو أنني أسبغت على عملك نزعة شوفونية. فقط ما أردت قوله في كلمتي الموجزة هذه والتي أراها أقرب إلى رأي منها إلى النقد، أو ربما لا تنظر أنت إليها لا هذا ولا ذاك. 

 أنك يا صديقي نظرت للعاصمة بجلالها وقدرها الرهيب نظرة سائح حمل آلة تصويره باهظة الثمن والتي سُرقت أو ضاعت في نهاية المسلسل السردي، ليلتقط بعض الصور للذكرى، لتحكي عنها مع نفسه وأقرانك، فتنكّبت الطريق الصحيح. فمصر والقاهرة تحديدًا والمنصورة كما صوّرت كاميرتك ليست كما رأيتَ أو تخيّلت قبل أن ترى.

 لكم كنت أرجو وأنا أمسك الكتاب بين يديّ أن أرى غوصًا في النسيج المصري القاهري، أن أرى طبيعة التفاعلات اليومية بين الماضي والحاضر في تصرفات القاهريين والتي هي أيضًا مسلك كل مصري، أن ترصد حالة الفوران النفسي- المجتمعي- بأسلوبك السردي المبهر، غير أنك آثرت أن تأخذ جانب السائح الأجنبي القادم إلينا بقضّه وقضيضه الثقافي العلوي.

يبقى أن “هنا القاهرة”، كُتبت بمنطق روائي، تحمل كثيرًا من الدهشة للقارئ غير المصري، غير أنها كما قلت وكما أصرّ أنها قصص صيغت بمنهج أنثروبولوجي قديم، لا يركز على قيمة الإنسان المصري بكل تفاصيله الحضارية وموروثه الثقافي الضارب بعمق التاريخ، لكن بمنهج يضع الباحث فيه نفسه في مرتبة أعلى من المجتمع الذي يرصده.

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.