صياد مبتدئ

صياد مبتدئ

اللوحة: الفنانة الكويتية سوزان بشناق

اتساع القاعة لم يغن عن ضيق المساحة التي فصلت بيني وبينها، تسللت رائحة عطرها إليّ، كجرس إنذار، تتبّعتها بعيني، ألقيت أذنيّ إليها، أتسمّع، أصغي، لحديثها في هاتفها، ضحكاتها الخفيفة. كأنما استشْعَرَت من يتطفّل على خصوصياتها، فالتفتت إليّ وبعينيها علامة استفهام كبيرة، على ثغرها بسمة كدعوة لبدء الحديث.

قلت متشدقًا برؤية فلسفية كنت قرأتها من قبل: الشوكولاتة والمرأة سرّان غامضان يستعصيان على الرجل.

انتبهت بكلّها لي، قالت: يعني ايه؟

قلت: أميل إليهما، غير أن ميلي لواحدة منهما أكثر وأكبر.

زاد فضولها، أطلت من عينيها رغبة في معرفة ما وراء عبارتي. حينها تشاغلت عنها بشيء ما، ربما كتاب أتصفّحه، جيب أعبث بمحتوياته، هاتف أنظر لشاشته السوداء، سقف أتتبع عليه بعيني دوائر لا نهائية تصنعها بعوضة… استهلكت كل الطرق التي أعرفها، التي ذاكرتها وحفظتها من قديم، فلما أوشكت أن أصل لنهاية الشوط، فاجأتني قائلة: خلّصت؟

دهشتي هذه المرة كانت طبيعية، قلت: بمعنى؟

ضحكت بدلال فتاة لم تتجاوز الرابعة عشر، قالت بلؤم أنثى على أعتاب بركان يوشك أن يندلع من تضاريسها: ألقيتَ بسنّارتك، وتركت صيدكَ. ثم زادت ضحكتها حتى أنها وضعت أصابع يمينها على فمها، أكملت: عفوًا، أظنكَ صياد مبتدئ!

لم يمنعني خجلي أن أردّ عليها، قلت: لطالما نعتتني أمي بأنني قطة مغمّضة. صادقة رحمها الله في زعمها هذا، بالفعل أنا لا زلت أحبو على أول الطريق.

مالت عليّ وهمست: أعرف الصادقين من نظرات أعينهم، وأنت منهم.

اقتربت منها، أزحت الفاصل الوهمي بيننا، وضعت حقيبتها على الأرض بجوارها، قلت: تفضلينها سادة؟

أجابت: باللوز.

قلت بعجب: القهوة؟

فقالت: يا مبتدئ الشوكولاتة.

قبل أن أكمل كلامي، تناهى إلى أذني جرس المدرسة الابتدائية القديم يعلو رويدًا، فنهضت وحملتُ كراستي، قلمي، مسطرتي، وأشياء أخرى أوصتني أمي بها ونسيتها كعادتي. بينما الناقد الأدبي الشهير، ينهي محاضرته بعد استعراض نظريات معاصرة، وأفكاره، ثم يختم حديثه بعبارة يرجّ بها القاعة رجًّا، يقول: طوبى للصادقين.

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.