قراءة في المجموعة القصصية «تُمن شاي» لرانية المهدي

قراءة في المجموعة القصصية «تُمن شاي» لرانية المهدي

بينما كان معرض القاهرة الدولي للكتاب بالعام الجاري يستعد للرحيل في هدوء. أسعدني الحظ وحضرت نهايات فاعلية في احدى قاعاته فائقة الفخامة والرقي. ندوة عن الأدب النِسوي، تواجدت فقط في الساعة الأخيرة من عمر الندوة، لكن كانت كافية لتأكيد وجهة نظري حول مفهوم الأدب النِسوي في العالم العربي وآفاق تطبيقه، استمعت لآراء خلطت بقصد أو بدون بين الأدب في صورته النِسوية وبين شكله الأنثوي. الفارق كبير والبون شاسع، في أن تكتب المرأة أدبًا – أي كان اللون الأدبي – من زاوية الأنثى، صراعاتها مع الرجل والمجتمع الذكوري المتسلّط بحسب زعمها، الترويج للتمكين والمفردات المتداولة منذ سنوات بعيدة، وبين أن تنظر المرأة – شاعرة – قاصة – روائية – للقضايا المجتمعية – الإنسانية من منظور مغاير لا يناصب الموجود العداء بقدر ما يميل إلى طرح فلسفة جديدة للتعاطي مع القضايا المجتمعية والفردية، كما قلت الفرق كبير بين الحالين.

نِسوية الأدب – وفق تصوري – أنه يركز على تناول قضايا المجتمع، الفرد سواء أكان رجلا أو امرأة بصورة مغايرة لوجهة نظر أو قلم الرجل، هو تكملة لفرضية ارتفعت وأصبحت بديهية من أن المجتمع الإنساني لا يتكامل بغير وجهتي نظر الرجل والمرأة، من اللا منطق أن نتجاهل رؤية الأديبة للقضايا المجتمعية –الإنسانية تحت أي مبرر.

على العموم لم يسعفني الحظ أن أجهر برأي هذا، فالندوة أقفلت أبوابها، لملمت المنصة أوراقها واكتفت ببعض الإدانة للأنماط الأدبية الذكورية السائدة، التأكيد على ضرورة أن.. وأن.. وأن

المقدمة السابقة من الضرورة بمكان قبل التطرق لأي عمل لكاتبة صاحبة قلم ذهبي، تؤمن بأن لها رؤية محددة في تصوير قضايا المجتمع والأسرة والفرد وفق ما تراه كامرأة فاعلة.

«تُمن شاي»

طلبت من القاصة رانيه المهدي بصفة شخصية أن أحصل على نسخة من مجموعتها القصصية “تُمن شاي” بنسق pdf فلبّت طلبي في الحال، كنت من فترة أتابع بعض أجزاء من قصص تنشرها على التواصل الاجتماعي، أبديت كثيرًا من الملاحظات التي لا تخرج عن إعجابي بأسلوبها السردي، باختلافها عن قريناتها من الكاتبات في التناول للموضوعات، الصياغة، تمكّنها من أسلوب السهل الممتنع، التوظيف العبقري لمفردات عامية ريفية – بعضها لا يعرفه القارئ المعاصر، عَمِدَتْ هي لبعث وإحياء هذه المفردات..

“تُمن شاي” هي مجموعة قصص، برائحة طين الأرض الريفية، تغوص في الموروث بقسوة.

لعل رانيه المهدي تُدرك بصورة غير مباشرة معنى ودلالة “الأدب النِسوي” وأنه لا يمكن الفصل بين الكاتب وبين النص بصورة قطعية كما يروّج البعض. فالمرء ابن بار لبيئته سواء الثقافية أو الأسرية أو المجتمع الكبير وبالضرورة فهو بار بجنسه الذي ينتمي إليه ونوعه الذي ينحدر منه، لا تثريب أن يتأثر الكاتب بكل المعطيات السابقة ليُخرج نصًّا يناقش واقعه أو يواجهه أو يلفت النظر إليه بمآسيه ومشكلاته، المرأة كيان منفصل بوجودها وتفاعلاتها الداخلية وانعكاسات ذلك كله على رؤاها للعالم من حولها وبمن ثم تأثّرها بكل هذا في أنماطها السردية التي توظّفها في كتاباتها.

ولا نقصد هنا تأثر الأدب بمفهوم الذكورة والأنوثة، فهذه نظرة شديدة الضيق عالية التسطيح، وإنما الغاية أن تنظر الكاتبة للحدث الجاري أو تفعّل خيالها الجامح حول مشكلة ما، فتتناولها بصورة سردية مغايرة للسائد، فنصبح أمام توليفة شديدة الرقيّ، كقطعة فسيفساء لا نملك إلّا أن نندهش وننفعل ونتفاعل معها.. مع النص وصاحبته.

العنوان

لا أقف كثيرًا أمام عنوان الكتاب – أي كتاب – فأميل إلى أن أدلف سريعًا للمحتوى، لعلمي أن العنوان يخضع لاعتبارات النشر وما أكثرها، غير أن هذا العنوان “تُمن شاي”، شديد المحلّية، مستقر بقاع مجتمع ريفي لا يعرف إلّا لون الشاي الأسود شديد المرارة من كثرة الغليان، العنوان يعبّر عن حال اقتصادي، معاناة لا يزال بعض بني جلدتنا في أصقاع الريف المصري يعانون منها.

جاء العنوان لافتًا للانتباه، يثير السخرية في النفس، غير أنها سخرية مصحوبة بمرارة ذكريات من عاش فترة من حياته كانت أمنيته الوحيدة أن يحصل على تُمن شاي. تبتعث رانيه المهدي في مجموعتها “تُمن شاي” كثيرًا من الطقوس والممارسات الريفية المصرية التي غالبيتها متوارث عن أو من مصريتنا القديمة جدًا وأخرى وافدة تم تمصيرها.

الأهازيج الريفية، الأغاني، الموروث عن السحر، الشعوذة، كما في قصة التبّيعة، كل ذلك تتناوله المهدي عبر المجموعة، لم تنس أنها امرأة فنقلت لنا أحاسيس المرأة المضغوطة تحت أطنان من العنف الأسري والمجتمعي، لكنها تسير على خيط مشدود بين قمتين، بيدها عصا طويلة، توازن بين فهمها للسرد برؤية نسوية، تخشى الانزلاق لهاوية العنف النسوي في تناول علاقة الذكر بالأنثى – الشكل الأكثر تسيدًّا للمشهد السردي النسوي الآن. 

دلالة ذلك، قصتها الصادمة “السوار”، امرأة اختارت طريقها بعناية، اشتاقت لسوار ذهبي ودفعت ثمنه مبكرًا وأصبح الأثير لديها والأقرب إلى قلبها والمتصدر صندوق مجوهراتها الممتلئ بالنفيس منها، لم تحمّل الكاتبة المجتمع تَبِعة سقوط البطلة هنا، لم تبرر لها فعلتها وتصرفاتها في البيع والشراء، لم تلعن الظروف على لسان بطلتها لتقول لنا أنها دُفعت رغم أنفها لممارسة أقدم مهنة تحت وطء دوافع ما.. لم تفعل القاصة أي من هذا، بل تركتنا ننفعل مع البطلة، ثم نقف لنشهد نهايتها المأساوية بنصل انغرز في عنقها، اندفع إليها من العدم، كأن رانيه تقول لنا في نهاية قصتها “السوار” لكل شيء ثمن، ربما يُدفع بعضها فورًا لكن الأكيد أن بقية الثمن سيدفعها البائع لاحقًا. عقد ارتضته البطلة هنا، جمالها الصارخ كان عنوان لمرورها لطبقة أعلى، مركبة امتطتها لتتجاوز فقرها. غير أن لكل سلعة ثمن كما قلنا، بين البائع والشاري.. كما يشيع لدينا في الريف.

“لمبة جاز”

 قصة غارقة في الماضي، لا يعرف قيمة الكهرباء، إلّا من عايش الظلام، تعايش مع لمبة الجاز، ذؤابتها التي يحركها الهواء، رائحة الجاز التي تخنق حرفيا، السناج الذي يتصاعد ببطء حتى يغطي جسد الزجاجة، ثم يعلو من الهواء الرتيب ليستقر على الجدران والأسطح، كأنه خاتم يصم حياة الفقير. رغم هذا كانت “لمبة الجاز” هي الوسيلة الوحيدة لشق بطن العتمة ليلًا، نورها الواهن المضطرب يشي بحياة أشد اضطرابا في بيوت الريف.

قرأت قصة “لمبة جاز” على فترات زمنية، فكل مرة أتوقف، أرتد بعقلي للواقع لأتذكر أن القصة لكاتبة، ليست لرجل، نقلت لنا أحاسيس البطل، تعلّقه بخالته، تضحية هذه الاخيرة بكل شيء للوقوف جوار زوجها. 

البطل رغم تفوقه العلمي، انطلاقه للخارج، وقوفه على ثقافات أجنبية، لكنه لم ينس الماضي البعيد، ذكرياته مع القرية، أمه، خالته، زوج خالته عم فتحي المصري، صراع أهل القرية ضدهما، النموذج الذي صنعه بخياله للمرأة كما يجب أن تكون، التي لم يجدها حتى نهاية الحكاية. 

حتى مشهد تزغيط الخالة “صابرة” للبطة، احكام سيطرتها عليها تحت فخذها ناصع البياض، مشهد قد ينقله قاص بحرفية ممزوجة بانفعالات نفسية جسدية وينجح في هذا، لكن التصوير السردي لرانيه المهدي أشد دقة، أكثر تأثيرا، كما قلت، دفعتني قراءة هذا المشهد أن أقول لنفسي انها قاصة وليست قاص. “السوار” مثل عملي على الصياغة السردية النِسوية كما يجب أن تكون.

“تُمن شاي”

والعزف على نغمة “سبعة في سبعة”، الطفلة قاسم مشترك بين القصتين، اللعب بالعرائس القماش، اللهو في الطين أمام الدار، عالم البراءة الضيق بطبعه أمام أطفال الريف والأشد ضيقًا كخرم إبرة في أعين الصبايا، الختان في “سبعة في سبعة”، مرارة الذبح بسكين العرف المجتمعي الظالم، التجربة السوداء والتمرد عليها، زواج القاصرات باعتبار أن لخلاص من البنت وسترها بالزواج فقط، 

في تُمن شاي، يتصاعد الإيقاع السردي لرانيه المهدي، فنرى البطلة الطفلة تلجأ للتحايل على الواقع، والفرار منها من خلال تتبّع القدوة – ست البيت الكبيرة، أم الأبناء العشرة- ترقبها، تداهنها، تجهن رجليها، تتمسح في ساقيها كقطة تتبع وليّ أمرها، حتى تتاح لها المرور بالتجربة الأولى وهي الذهاب لسوق الأربعاء بديلًا للكبيرة التي داهمها المرض، فتفعل وكلها صراعات داخلية، الرهبة- الخوف من الفشل- تتسلّح بلسان زلق لا يزال في بكورته لم يعرف البذاءة بعد، و مع مشوار سوق الأربعاء تنجح البطلة الطفلة في الامتحان، حين تجد أنها اشترت كل الاحتياجات من السوق ولم يعد معها مال لشراء ” تُمن الشاي”، حيرة وأي حيرة؟ نهاية مأساوية إن عادت بدونه. الكبيرة تنتظر، المصير الأشد سواد والتمثل في وأد فكرة الفرار من الأسر لعالم أكثر رحابة يخلو من القيود ويميل لمستوى حرية مقبول نفسيًا وعقليًا لديها.. رهنت الخلخال لقاء تُمن شاي.

رمزية القصة تتجلّى في أن المرأة- الطفلة – قد تُضطرها الظروف للتحايل على واقعها، التوازي معه، مسايرته، استغلال نقاط ضعفه والقفز عبر خطوطه الحمراء، لتصنع لها واقعًا جديدًا – إن نجحت في ذلك – بمرور الوقت تتحول لكبيرة من نوع آخر. تمارس بأسها وسطوتها على نسوة وفتيات ساقهن حظهن العاثر والفقر والعرف إليها.

رانيه المهدي قاصة راوغتني وأرهقتني، أجدها أحيانا تأخذ صف المرأة المغلوبة على أمرها، وتارة أخرى تقول جهرة أن جزء من حياة المرأة يبدأ من عندها وينتهي كثيرًا ايضًا عندها، تُمن شاي خير دليل على ذلك.

لعل ما كتبتُ هنا محاولة لقراءة جزء من عالم رانيه المهدي السردي، ربما اقتربت من عالمها هذا، لربما لم يحالفني الحظ أو أسأت التقدير.

عُذرا يا سيدتي، فكما قيل: المجتهد إذا أصاب فله أجران، إذا أخطأ فله أجر. 


رانية المهدي

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.