تعقيب على ما قاله محمد كمال سالم في مجموعته القصصية «أغنيتي الأخيرة»

تعقيب على ما قاله محمد كمال سالم في مجموعته القصصية «أغنيتي الأخيرة»

أومن أن السرد هو طفل شرعي لبيئة الكاتب وثقافته ومعاناته، صراعاته النفسية، جنونه، مجونه، أخلاقه، واستقامته. لا يمكن أن نفصلهم عن بعضهم، ومن غير المقبول أن يحدث فطام هنا.

وإذا كان القاص يتعايش مع واقعه، يتفاعل معه، يستغرقه، قد يغرق فيه لأذنيه، إلّا أنه يجنح كل فترة لماضيه – قد يفرّ إليه مضطرًا – يمرح فيه بعض الوقت، يغوص لأعماق لا يبلغها أحد، وما بين ماضِ أليم، وواقع معاش أشد ألمًا يُخرج لنا محمد كمال سالم، أغنيته الأخيرة في صورة مجموعة قصص، يغلب عليها طابع الحنين، افتقاد يمتزج بحاضر يحمل بداخله قدرًا لا بأس به من الإجهاد والتعب.

أدري أن المرء يبحث دومًا عمّا يؤنس وحدته، يميل لقراءة ما تهواه نفسه وينزع نحوه عقله. فما بالك بقصص قرأتها مرة ثم أخرى، كلما طالعتها توقفت أمام قصة رأيتها درّة تاج العمل كله، أقصد قصة ” حساب عسير” فيها تخلّى القاص عن إدمانه للماضي السعيد، عن هوايته في النبش بين الأحجار، التلصص عبر أزقة وحواري ماضي، حتى كدتُ أهاتفه وأنا أقرأها وأقول له: لعلك أخطأت يا صديقي الطريق، ذهبت برجليك إلى واقعك، سردت لنا بعض من معاناة الناس، ثم تراجعت وقلت: لعله يقصد أن يشير لنا أن الحاضر في قسوته هو وليد للماضي، الاتصال بينهما قائم ولا يزال.

كذلك أمعنت النظر في “سالومي” بشكل خاص، أقلقتني هذه القصة الأخيرة، قلت وأنا أفرغ من القراءة الخامسة لها: لو لم يكتب محمد كمال سالم غير هذه القصة في حياته لكانت كافية. اختيار عنوان هذه القصة من العبقرية التي تميّز القاص، سالومي هي فاصل تاريخي بين براءة ذُبحت، رغبات متوحشة أطلق لها العنان- الثمن محدد دومًا ومدفوع مقدًما – قديمًا كان رأس نبي، والآن أرض أنبياء، هيردوس حي لا يزال بيننا، غانيته تتأوّد طلباتها تتزايد.

أغنيتي الأخيرة

هي مزيج سردي سحري خطّه القاص، بين ماض مفعم بالبهجة، حاضر يفيض بالوحل، مستقبل سائبة أركانه.

السيد عفت- القصر- سالومي بتبرجها وتهتكها وتحلّلها من معايير مجتمعية مستقرة- طموح زوجة قلقة عينها على حاضر ترغبه، عينها الأخرى على زوج يولي وجهه شطر الماضي فقط.

أزمة لخّصها الزوج هربًا من كل شيء إلى ماضي لا يرى غيره “قررت ألاّ أنصاع لرغباتهم، عدوت نحو النافذة، قفزت من خلالها..”

غير أنه تحمل نتيجة فعلته (وإن كنت لا أدري هل رضي بذلك أم..) حين قال: فلم أجد أرضًا تحملني…

كما ذكرت في كلمتي الموجزة هنا، الكاتب مهموم بشدة بالماضي، مجموعة يغلب عليها الحنين، حتى أن عنوانها مًقبض للنفس “أغنيتي الأخيرة”.

لكن السؤال المعضل، الذي يتخذ صورًا متباينة في الطرح، الذي لم يملك بشر أن يجيب عليه بموضوعية منذ بدء الخليقة وحتى الآن: ما المقصود بالماضي؟ هل ثمة سعادة فعلًا عاشها من سبقونا على الأرض؟

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.