اللوحة: الفنان العراقي سنان حسين
كيف يكون الإنسان لو حدث اختلاف في حجم أعضائه؟ تتضخم الأنف وتتقلص الرأس وتلتصق أصابع اليد فتفقد حرية الحركة منفردة، هذا تشويه لشكل الإنسان وتعطيل لوظائف الأعضاء وارتباك للحياة.
بمثل هذا المثال يكون أثر تبدل القيم، حين نقدم القيم الصغرى ونؤخر القيم الكبرى، ونحكم على الخطيئة كأنها جٌنحة، وعلى الخطأ كأنه جناية، ويشقى المجتمع، ولهذا مجتمعنا يعاني.
في حديث لي مع شاب خليجي، شكا صعوبة اختيار الزوجة المناسبة، لأنه حسب تقاليد بلاده تتاح له “الرؤية الشرعية” التي لا تمنحهما الفرصة والوقت الكافي للتعارف، هذا بالإضافة إلى ما يترتب على تكرار الرفض من حرج وتغير القلوب بين العائلات. استمعت إليه وكلي تعاطف وتفهم، ثم سألته؛ ماذا تريد؟، قال: أريد فرصة أكبر للتعارف، قلت له: حسنا، ولكن لي سؤال: “طالما خُضت المعاناة وتذوقت التجربة وتملك هذا العقل المتفتح، هل توافق على منح فرصة أكبر لمن يتقدم لأختك؟”، فقال في صوت عريض: “لا طبعا”.
فقفز إلى خيالي الحديث الذي طلب فيه شاب من الرسول أن يسمح له بالزنا فقال له: “أترضاه لأختك.. لأمك”.
ثم سألته: “لو صدرت فتوى من علماء الدين بإجراءات تُيسِّر تكرار اللقاء وتقلل قيود التعارف بين الطرفين، هل توافق؟
قال: نعم ولكن لا بد أن أتأكد أنها انتشرت بين الناس، فلن أكون أول من يطبقها.
أدهشني عدم شعوره بالتناقض، فالقيمة الكبرى عنده هي نظرة المجتمع وكلام الناس، في حين أنَّ الخطأ في قرار الزواج يترتب عليه طلاق وشِقاق وألم للأبناء ومشاعر سيئة بين العائلتين، فكيف يصبر الناس على تلك الآثار القاسية والتي تؤلم الجميع، ولا يخطر ببالهم مراجعة بدايات هذه المآسي التي هي إجراءات التعارف، وتساءلت في نفسي، أليس المجتمع هو نحن!
في مدينة في صعيد مصر، تم عقد قران بين شاب وفتاة، وتأجل موعد الزفاف للعام القادم، وانجرف الزوجان إلى لقاء جسدي بينهما، ولم تنتبه البنت إلى أنها حَمَلت إلا بعد انتهاء الشهر الثالث، فأخبرت أمها التي أسرعت لأم الشاب، وكان تعجيل الزواج مستحيلا في عُرفهم لأنه سوف يثير التساؤلات، ويكتشف الناس الأمر حين يَحدث الإنجاب مبكرا، ورغم أنّهما شرْعا زوجان، إلا أنَّ للمجتمع شرعه العنيد، وسوف تلوك الألسن الحدث كفضيحة، فكان القرار أن تسافر الأم مع ابنتها للقاهرة بحجة شراء بعض مستلزمات العروس، وتجري عملية الإجهاض، وبالفعل تم قتل الجنين رغم علمهم بحرمة الإجهاض في هذه المرحلة من الحمل.
في هذه القصة الواقعية، كان متوقعا أن تكون القيمة الكبرى هي الدين، والدين يأمر أن يتم الزفاف، ولكن العرف المجتمعي الذي له الكلمة الكبرى يرفض هذا الإجراء، ونظرا إلى أنَّ البديل سيكون فضيحة وعراك ودماء وثارات قد تمتد سنينا طويلة، كان قرار قتل الجنين.
في هذه القصة، صورة أخرى لتقديم نظرة المجتمع على الدين نفسه، وبرز بوضوح مصطلح “صنم المجتمع”، فالناس يعبدون إله السماء ويطيعون صنمهم المجتمعي.
في الآية القرآنية في سورة الكهف؛ (وقال إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين) يخبر إبراهيم “عليه السلام” قومه أنهم عبدوا الأصنام مودة بينهم وليس إيمانا وبرهانا، وجعلوا تمسكهم بالأوثان رايةَ تَوَحدِهم وعلامَة مودتهم، وهذه لفتة قرآنية نفسية بارعة، حيث تنسب سبب الكفر إلى نفاق وإملاء المجتمع.
في السيرة النبوية، عندما همَّ الرسول ﷺ بفتح مكة، أوحى إليه الله تعالى أنَّ الصحابي “حاطب بن أبي بلتعة” بعث رسالة إلى قريش يفشي خبر الغزوة، وبعد العثور على الرسالة سأله الرسول ﷺ فقال: “يا رسول الله لا تعجل علي إني كنت امرأ ملصقا في قريش (كنت حليفا ولم أكن من أنفسها) وكان من معك من المهاجرين من لهم قرابات يحمون أهليهم وأموالهم فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ عندهم يدا يحمون قرابتي ولم أفعله ارتدادا عن ديني ولا رضا بالكفر بعد الإسلام” فقال ﷺ أما إنه قد صدقكم فقال عمر يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق فقال إنه قد شهد بدرا وما يدريك لعل الله اطلع على من شهد بدرا فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم فأنزل الله الآية” يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق.. إلى قوله فقد ضل سواء السبيل”
في هذه القصة، الله تعالى لم يذكر في القرآن الحادث أو اسم حاطب، ورغم أنها تعتبر خيانة عظمى، إلا أنَّ الرسول ﷺ غفر له بشفاعة سابق جهاده مع المسلمين.
لا يحاسب الإسلام الإنسان بالخطأ الأخير، بل ينظر لرصيده من سابق الخير، فلا يمسح تاريخه لخطأ انفرط منه في لحظة ضعف، ولم تذكر السيرة أنَّ معاملة المسلمين لحاطب تغيرت، بل تخطى المجتمع ما حدث ولم يؤثر على مكانته بين المسلمين.
مجتمع اليوم يخفي ذنوبه ويكتمها فتتفاقم وتزداد فسادا وإفسادا، وتَنبت فينا خبائث طباع تسري بيننا وتفسد حياتنا.
المجتمع النبوي ينشر ذنوبه ويطهرها ويعزلها عن الأشخاص، لا يلصق بالإنسان الذنب للأبد ويصمه بعاره ويحيا به في خزي، فالإنسان أكرم من أي قيمة، ويفعل الخير والشر ويتمتع بباب التوبة المفتوح رحمة للعالمين.
