مختارات من كتاب «منامات نوح عبدالرحيم وأحواله»

مختارات من كتاب «منامات نوح عبدالرحيم وأحواله»

اللوحة: الفنان الإيطالي ماريو سيروني

ماجد سليمان

المنام الثالث والعشرون

رأيتُ في منامي:

أَنّي أمشي بـخطىً بطيئة بين بيوت حيّ قديـم أعرفه، وخفقات قلبي تتصاعد ثـم تـهدأ ثـم تعود وتتصاعد، رأيت مئات الوجوه التي تعرفني وأعرفها من قبل، تداخلت نداءاتـهم الـمتحشرجة، وبعضهم سـمعت استغاثته الثقيلة، وجُـملٌ غاضبة، وأخرى ساخرة، وأصوات خليطها من الضحك الصارخ والبكاء الـمُر.

لاحقتني الوجوه ذاتـها، وأنا بالكاد أقتلع قدمي من طينٍ داكنٍ ثقيلٍ يُـمسك بـهما، رأيت نفسي وقد وقفت نـهاية الـحي، وعلى طرفه الأيـمن وُضِعَت طاولة قصيرة، إحدى قوائمها ربطت بسلك كهربائي، وطرف سلك آخر يلتف حولـها، فكرت بالـمتابعة هرولة والـخروج من الـحي سريعاً، انتبهت لكائن لزج في يدي، فككته فسقط واختفى. قاسيت ضجيجاً يـجيء من خلفي ولا أرى أصحابه، وعادت الأصوات ذاتـها، فهرولت نـحو الطاولة وركلتها بقوة فسقطت، وسقطتُّ من بعدها بأمتار.

ثم استيقظتُ من نومي

المنام الرابع والعشرون

رأيتُ في منامي:

أنّ قريبتي (هـ) ضمن ركّاب حافلة صغيرة تذهب في شوارع الأحياء القديـمة ليلاً، فتوقفت عند مدخل الـحيّ، ونزلت حاملة لفافةً من القماش الأبيض، ومشت تـجاه البيت، رفعت رداءها عن الـماء النجس الـجاري من فتحات مـجرى جدار طينيّ لبيت قديـم، كان الظلام يسدّ كلّ شيء حيث بيتها يقع في آخر الـحيّ. أناس يقطعون الـحيّ مشياً في صمت مريع، وجوههم غاضبة الـملامح، وصلت البيت فإذا بنساء يلبسن الأبيض ويـحملن بأيديهن ورداً أبيضاً، نادت:

  • هل من أمر؟

لـحظتها خَرَجَت أمّها وخلفها أخواتـها في ملامح نافرة، رأتـهنّ يذهبن بعيداً وخلفهنّ رجالٌ بأيديهم فؤوس تلمع في العتمة، وفجأة أتى صوت انفجار فتساقطت عند قدميها قطع لـحم أمها وأخواتـها وعظامهنّ الـمحروقة.

ثم استيقظتُ من نومي

المنام الخامس والعشرون

رأيتُ في منامي:

أنَّ نسراً بثلاثة رؤوس يقف في الزاوية الأشدّ عتمةً، وكلّ رأس ينظر في جهة وينخفض ويعلو بعكس الآخَرَين، سألت بـخوف: أنسرٌ ما أرى؟! التفتت الرؤوس الثلاثة إلي، فرفع جناحيه الأشهبين، كان طويل الرقبة ضخم الـمناقير، حدبته شديدة، وله مـخالب من الـخشب وساقان قصيرتان يغطيهما شعرٌ أبيض كثيف، تـخرج كلّ ما حرّك جناحيه رائحةٌ أنتن من الـجيفة.

استويت مكاني خائفاً، وراح يقفز بيني وبين (م)، ولـخبط أرجله صوت كانفجار البالون، أهشّه عنّي كلّما اقترب، ولكنه لا يستدير عنّي إلا وينفخ بريحٍ كريهة، من كراهتها أكاد أُغمى، رأيته يتّجه إلى (م) وينقر هامته، ويأكل الرأس الأوسط من دماغه، ثـم يـمسك الرأسان الآخران بـمنقارهـما عضداه ويطير به من النافذة، خارجاً بعد أن كسر سياجها، وحدودها الأسـمنتيّة.

ثم استيقظتُ من نومي

المنام السادس والعشرون

رأيتُ في منامي:

أنّي بين جدران السجن السوداء ذات الصدوع والأوساخ، وصوت امرأة ينهمر عَلَيّ من أعلى، رفعت رأسي مرعوباً، كان منظراً مَهُولاً: امرأة عارية معلّقة من أثدائها بـخطاطيف فولاذية، أحشاءها تتدلّى من فوق سُرّتـها كان صراخاً يَدُكُّ أرض روحي دَكّاً، لـم أتَنبّه لـخيوط دمعي التي قَطَعَت أخاديد وجهي، وقفتُ فَزِعاً حاولت الـهرب، ولكن من أين؟ ضوء النافذة بدى شحيحاً، أُحسّ أن أنفاسي الشديدة سَتَخْلَعُ معها ضلوع صدري من شِدَّة شهيقها.

سِرْتُ خطوتين فانزلقتُ في ماء أحدثه تَسَرّبٌ يقطر من السقف البالي، ارتطمتْ مؤخرة رأسي بأرضية السجن.

ثم استيقظتُ من نومي


منامات نوح عبد الرحيم وأحواله

ماجد سليمان، أديب سعودي
صدر له حتى الآن أكثر من 20 عملاً أدبياً
تنوَّعت بين الشعر والرواية والمسرحية والقصة.

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.