«قيل عن التاريخ إنه صاحب نزوات، وإنه لو شاء محاكاة أحد أحداثه الماضية أعاده على شاكلة مهزلة، ماذا لو أن الحدث الأصل.. كان مهزلة صرفا؟»
بهذه العبارة، صدّر إسماعيل فهد إسماعيل مسرحيته:« للحدث بقية» والتي ينطلق فيها من منطقة التنوير الأكثر تحريكا للأحداث في حياة الشاعرالأندلسي «ابن زيدون» حيث يعرض لنا فترة تولى ابن زيدون للوزارة، وحياكة المحيطين به لمؤامرة إبعاده عن الحكم وعن محبوبته «ولادة»، مستخدما هذه الأحداث رمزا كإسقاط سياسي على ما نمر به من أحداث في عالمنا العربي الآن من صراع وانشقاق، وخلاف وشقاق بين الأخوة؛ حتى صارت الاستعانة بتدخل الأجنبي أمرا مسوغا، وحلا مقبولا من جميع الأطراف – حكاما لا محكومين بالطبع – مسقطا هذه الأحداث على واقع يكرر نفسه منذ تاريخ العرب المسلمين الأوائل، وحتى يومنا هذا.
وذلك ما نلحظه أول ما نلحظ من اختيار الكاتب لعنوان عمله المسرحي الذي يمكن أن نعده من المسرح السياسي.. هذا المسرح الذي عرفه الأديب السوري الكبير «سعد الله ونوس» والذي أهداه كاتبنا هذه المسرحية بأنه المسرح الذي يهتم بالسياسة بشكل مباشر ويومي ومحسوس وملموس وبحدث من الأحداث، وبقضيّة من القضايا.
ويرى الكاتب والناقد المسرحي المغربي د. عبد الكريم برشيد «المسرح الثالث» – كما عَنَّ له أن يطلق عليه – أنه يعتمد على قراءة الموروث الشعبي برؤية آنية تحوي إسقاطات سياسية واجتماعية وثقافية.
وربما هذا ما نراه عند إسماعيل فهد إسماعيل في هذا العمل المسرحي، فقد استعان بحدث تاريخي معروف، موظفا إياه لخدمة فكرته، وتأطير أبرز قضية يعانيها الوطن العربي، ووضعها في دائرة الوعي عند المتلقي؛ فنجده يعرض ما كانت فيه قرطبة، وما تعانيه الدويلات حولها، وكأنه يعرض مأساتنا اليوم، يقول: «العدو يحشد جيوشه في الجوار، وحكامنا – هم هم – مازالوا يتداولون أمور اقتسام السلطة فيما بينهم، ولا يتوانون عن تآمرهم تجاه بعضهم البعض»
ويعرض مأساة ابن زيدون وكأنه يعرض مأساة الشارع العربي بأسره؛ متخذا منه رمزا للفكر والمبادئ والقيم التي يؤمن بها أصحاب الرأي والهم الوطني، أصحاب الفكر والثقافة في المجتمع، فهو يعد الوجه الآخر للمثقف الواعي، كما اتخذ من الجوقة رمزا لنبض الشارع الحقيقي وفكره، رمزا لعامة الشعب الذين يظلون شاهدي عيان على الأحداث دون مشاركة صريحة فيها، يريدون القول فلا يحسنونه إلا مغلفا أو من خلف حجاب.. قد يكون بالعبارة الدالة، أو النكتة، أو التقريع اللاذع أو بالسخرية من الأمر كله، وقد استخدم في صياغة حوارهم عبارات دالة تجعلنا نتجاوز بها الزمان والمكان؛ لنشعر أننا في هذا العصر مثل من يكتب التاريخ مرتين.. إحداهما بمشيئة الحاكم. قانون طوارئ. قاض عسكري.. إلخ، كما استخدم بعضا من العبارات الشعبية العامية مثل: «صار معلوم.. الله حي» بما يوحي أنهم هؤلاء المتدروشون المختبئون بفكرهم وآرائهم خلف هذا المظهر الرث.
وقد استخدم إسقاطاته الأخري التي تدل على حال السلطة وعلاقتها بالشعب، وكأنه أيضا يفضح الشارع العربي الآن فها هم رجال الشرطة يرضون ببعض قطع النقود مقابل سكوتهم عن أمر يرونه في شرعهم الجائر موجبا للعقاب، في حين يأخذون من لا يدفع ضرائبهم إلى مكان غير معلوم.. «سنمهل أهلك فرصة أن يدفعوا فدية لقاء اختطافك من قبل جماعة إرهابية» ويعد ذلك رمزا للجشع الإنساني، وبيع المبادئ بأرخص الأثمان. وها هو الطامع في ملك مقبل يحاول استقطاب الرأي العام في صفه ممثلا في ابن زيدون ومن يحبونه ويسيرون خلف رأيه من عامة الشعب، فهو البطل الشعبي آن ذاك، وهذا ما نجده على الصعيد السياسي في غير مكان من العالم خاصة عالمنا العربي.
ثم تحول هذا الحاكم – الناعم بداية -إلى باطش ظالم ينسى من ساهموا في تربعه على هام السلطة، فيفتك أول ما يفتك بهم، ملفقا لهم تهما ليس لهم بها من سلطان، ويظهر تعبيره عن ضياع العدالة، ودكتاتورية السلطة، وإلغائهم لكل منطق وعدل وأمانة، وتكميمهم الأفواه، وإلصاقهم التهم بالأبرياء في مشهد المحاكمة الهزلية التي عقدت لابن زيدون.. ثم يختم مشاهده بما آل إليه حال الناس من تشريد وتهجير؛ فصاروا لاجئين بلا وطن ضاربا بقوة على الوجع الفلسطيني داخلنا، مؤكدا على لسان الجوقة أن التاريخ بأحداثه يعيد نفسه، رغم عامل الزمن.
غير أن الكاتب قد وقع في شرك النقد الأدبي الذي لم يستطع السلامة منه، ربما بسبب سيطرة جمال نونية ابن زيدون، وإبداعه فيها، ولم تجانبه المباشرة في غير مكان بالمسرحية، حيث استخدام الأسلوب التقريري الذي لا يحتاجه المتلقي؛ بل يعد من وجهة نظري عاملا يقلل من جودة النص وأناقته، و استخدم أيضا بعض اللإسقاطات المسبوقة، التي استهلكها المتلقي فباتت مكشوفة لديه بعيدة عن لذة المفاجأة. كما أرى أن الفكرة استغرقته أكثر من حياة شخصياته وسماتهم الذاتية؛ فمر أحيانا عليها مطوفا فوق سطحها، دون أن يغوص في الأعماق منقبا في دواخلها؛ مما جعلها مهمشة عابرة.
لكن الكاتب يبدو حاملاً هموم الوطن باحثاً عن الخلاص، يتداخل عنده الهم الفردي بالهمّ الجماعي والقضيّة الأخلاقية بالقضيّة الوطنية والقوميّة، فيحذرنا من أن نرمي بأنفسنا في أحضان الغير أياً كان نوعه، و قد استطاع في هذه المسرحية أن يضع يده على الجرح الحقيقي والذي سببه الصراع بين السلطة والشعب، وبين السلطة والسلطة على مقاليد الحكم، مضحين بشعوبهم، ومصادرهم الحيوية، غير عابئين بما تعاني الشعوب من هموم على اختلافها.
