في كنف الشيطان

في كنف الشيطان

هيام علي الجاويش

اللوحة: الفنان الإيطالي ميكيلانجلو ميريزي كارافاجيو 

جُلَّنار، أيتها النجمة، أي ريح رمتك بين يدي هذا الفارس؟ كيف استحوذتِ على قلبه؟ أو السؤال الأصح كيف استحوذ على قلبك؟ لله درك لا تظنيها ميزة به إنما الميزة بك أنت لكنك ستعلمين بعد حين كم كنت مغفلة، وأنك دخلت مدخلا غير صدق وستخرجين مخرجا غير صدق، سيخبو نورك قليلا قليلا، وعندما تلوح نجمة أخرى سيلاحقها غير آبه بك، وفعلا هذا الذي حدث! 

لقد كان شديد الذكاء فقد درس شخصيتك بإتقان وكنت بالنسبة له ككتاب مفتوح، عرف أفكارك وطموحك واهتماماتك وهواياتك، ماذا تحبين وماذا تكرهين، ماهي الخطوط التي يمكنك تجاوزها وماهي هي الخطوط الحمراء، باختصار شديد جمع كل محاسنك ونسبها لنفسه متخلقا بها، حتى أنك أحسست أنه هو هذا الذي تبحثين عنه، وهو فرصتك النادرة والوحيدة، كان يبتعد يجعلك تتعطشين وتظمئين وعندما يقترب يرويك حد الانتفاخ، كان ماهرا بمد الزمن وتقلصه، وماهرا بفرد الكلام ودمجه، حتى انتابك إحساس أنك أمام شخصية استثنائية وغامضة، فما عليك إلا فك شيفرتها لترتقي بنفسك وكأنه هو ضالتك ونجمك، وكله محسوب وبدقة، وعندما أمن على كل شيء، بدأ بالخطوط الحمراء، وكل خط له خطة فإما يتجاوزه دفعة واحدة بثورة غضب أو خطوة خطوة بإقناع ورجاحة عقل مع قليل من المنطق ورحابة الصدر.

وتمر السنين وتبدأ الأقنعة بالتساقط، ففي كل موقف حاد في الحياة كانت تراه بوجه جديد ويدور الكلام بينهما ويسحب الحق إلى جانبه نازعا أشواك تصرفاته وردود فعله، كانت تعارضه أحيانا وتقتنع معه في أحيان أخرى، لكن في كلا الحالتين كانت الأمور تسير على هواه، كانت مقتنعة بأن لكل إنسان ميزات وصفات وأسلوب للتعامل مع الحياة وقدرة على التحمل والصبر، إلى أن استنتجت أنه ما زال هناك أقنعة متنوعة بتنوع الحالات والأفكار وهي أيضاً مثله ومثل غيره تملك الكثير من الأقنعة: قناع المتفهمة، وقناع المستكينة، وقناع الراضية، وقناع المقتنعة و و..، والتي لا تسقط إلا في حالات خاصة، وتبرر ذلك بأن الظرف اقتضى هذا، لا بأس بذلك إذا لم يكن الوجه الذي خلف القناع مخيفا، فمن حق الإنسان ألا يتعامل مع المنافق بنفس تعامله مع الجيد، وألا يتعامل مع العابر كتعامله مع الصديق، إلى أن حان دورها. 

نفس اللعبة بحذافيرها التامة سيحافظ عليها مع بعض المشاكل ترك نفسه على راحته وتركها على راحتها تخطئ وتتعصب وتغار وتزعل وترضى كله براحتها حتى إذا قرر الرحيل جمع كل مساوئها مدعيا المظلومية، وواجهها بها وبأنها تشك به لأنها قليلة الثقة به وبنفسها وأنها لا تحبه وتصدق الناس ولا تصدقه، أما إذا قرر البقاء جمع كل حسناته وأفرادها أمامها مظهراً عشقه وولهه بها ومعاناته والعذاب الذي يتجرعه لأنها لا تبادله عمق المشاعر، لكن لكل تجربة أو لعبة ظروفها فسن الشباب غير سن الكهولة، والتخلي بدون مسؤوليات غير التخلي بمسؤوليات، وجلنار ليست عاتكة، والأهم من ذلك كله أين سيجد نجمة أو وردة ندية وهو في وضع يمشي ويجر سلاسل عمره ومستقبله خلفه، فإن وجد سيجد وروداً ذابلة غير منزوعة الأشواك مثله تماما، فقرر الرحيل بالزمان لا بالمكان، 

كانت جلنار قد تعبت منه لأنه في كل مرة كانت تحدثه فيها يأخذ الحديث إلى موقع آخر، وبالنهاية يكون الحق عليها لا معها حتى أنها تنسى الحديث الذي بدأت به وتنسى الموضوع الأساسي وتبرر له كل تصرفاته، ويترتب على هذا الكلام البحث في معاناته ومحاولة إيجاد حلول لمشكلاته وإرضاؤه نفسيا وماديا وعمليا وطبعا كل هذا على حساب أعصابها وتوترها وحذرها، محاولة صنع نسخة منها على مقاسه ليرضى، ولكن بالنهاية دائماً لا يرضى، مهما قدمت يشعرها بالنقص وأن عليها أن تبذل المزيد، وطبعا يحرك دفة الأمور بصمت وبمراقبة حتى إذا تعبت وتكلمت وسألت، عندها يبدأ بعد نواقصها وأخطائها، فما يكون منها إلا بذل المزيد، وعندما نفذت طاقتها ولم يعد هناك مزيد، قرر المغادرة حتى ولو كانت جزئية، وبما أنه لا يريد لشيء أن يفسد عليه سعادته يجب أن يعيش في بيته بكل هدوء على أي شكل كان، أما الحب والسعادة سيعيشها خارج البيت، وبحسب رأيه الزوجة للبيت والأولاد أما الصاحبة فهي للمتعة! 

أيها الشيطان أنت تعاني من داء العظمة! أين أخفيت هذا القناع؟ هل تحت ابتسامتك أم وراء وجهك الجميل أم كان مبطنا بأعمال الخير ونجدة الملهوف ليعلو شأنك وترائي الناس بها؟ وكيف يمكن للقناع المخفي أن يسقط؟ أنت جاوزت إبليس لأن إبليس رفض أمر ربه بالسجود لأدم أما أنت فقد وضعت نفسك مكان الرب، رب العالمين اختص صفاته لكل عباده من الرحمة والعطاء والحلم والكرم  إنما أختص بالعظمة لنفسه، وأنت أسقطت عنك كل صفات الرحمن واختصصت بالعظمة، والحلال حلالك والحرام حرامك، الحدود أنت من يضعها، وأنت تحيي وتميت، لكن نفسيا ومعنويا لا جسديا، فضحكاتك للغرباء وفضلك للعابرين، وودك وكرمك للأخريات، وحنانك ودفء قلبك وكلماتك الجميلة للغانيات، ولن أقول لأهل بيتك الفتات، أبدا فلأهل بيتك النقيض، فقررت جلنار اعتزاله واعتزال نفسها، ولتكن الحياة مهام وحقوق وواجبات فقط، وما الضير في ذلك بعد أن تبخرت الأحلام والطموحات بحياة كريمة، وبعد أن أصبحت الحياة سجنا مع الأعمال الشاقة! 

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.