قراءة في المجموعة القصصية «هيرعباس العقرب» لحسن العربي

قراءة في المجموعة القصصية «هيرعباس العقرب» لحسن العربي

نظرة سريعة

مجموعة قصص ” هيرعباس العقرب”، المؤلف أ. حسن العربي، صادرة عن دار الملتقى للنشر والتوزيع – القاهرة – 2023.

تقع المجموعة في مئة وثماني وعشرين صفحة، تتكون من خمس وعشرين قصة، القصة الرئيسة ” هير عباس العقرب” الحادية عشر في الترتيب.

ما قبل التأويل وبعد قراءة المجموعة

بصفة رئيسة لا أميل لتوظيف الكليشيهات النقدية التقليدية سواء من حيث الوقوف على عتبة النص من عنوانه، أو فحص الغلاف والتدقيق في مكوّناته وتناسق ألوانه أو تضادها.

لكن.. أبدأ بالتوقف قليلًا أمام الخلفية الثقافية للمؤلف الأستاذ:حسن العربي، فاليقين أن النشأة، الدراسة، المجتمع ومن قبل كل ذلك الأسرة، لها دورّا كبيرًا في تشكيل رؤية الكاتب للعالم من حولهو صياغة مفاهيمه الحياتية، نحت اتجاهاته الفكرية التي يرى من خلالها العالم، المؤثرة جميعها على نمطه السردي.

وإذا كان ” أنطونيو جرامشي”(١) قد صاغ لنا مفهوم المثقف العضوي بأنه: المثقف الذي يرى ويتفاعل مع حاجيات وتصورات طبقته التي ينتمي إليها، فالمثقفون وفقًا لذلك، لا يُشكلون طبقة مُستقلة، بل إن كل فئة أو طبقةاجتماعية لها جماعة من المثقفين خاصة بها، والذي يصده “غرامشي” هو مقدار ما يمتلكه هذا المثقف من وعي خلَاق يستطيع من خلاله التعبير عن القضايا والمشكلات المجتمعية، التي هو جزء فاعل وواع منها.(٢)

فالمثقف هنا هو المناقض تمامًا للفرد المتخاذل في المجتمع، نقصد بالأخير ذلك الذي يغضّ الطرف عن الإحن والمآسي التي تأخذ بِخِناق الناس وتدفعهم دفعًا للبؤس.(٣)

فالثقافة “ليست حقلًا حياديًا، لا يملك المثقف إرادة حرة للتعاطي مع المشكلات المحيطة به بعيدًا عن المؤثرات أو المنبهات الخارجية والداخلية، باختصار فالمثقف هو شخص مهموم بكل ما يحيط به، لا تتحقق قيمة المفهوم المثقف ما لم يُعلن صاحبها رأيه على الملأ أو يبشّر بيه بين الخاصة على الأقل”(٤)

وإن تجاوزنا التأصيل النظري السابق- البسيط-، نجد أن السارد “على العموم”، أو القاص، أو الكاتب، أو الروائي، هو الشريحة العالية بين المثقفين، هم الأجدر على التعاطي مع المشكلات الاجتماعية وإلقاء الضوء عليها، وإن كان غير منوط بهم تقديم حلول أو طرح مقترحات بكيفية علاج هذه المشكلات، فقد يلقون الضوء عليها سرديًّا ولنا في الأدب الروسي عِبرة في كيفية تفاعل الادب مع قضايا المجتمع، بل وتهيئته بصرة غير مباشرة للتغير سواء أكان التغيير بطيئًا تراكميًا أو راديكاليًا.

يظل الأدب وبالتحديد السرد القصصي والروائي، أداة يطوّعها الكاتب للتفاعل مع بعض القضايا المجتمعية التي يراها وفق ما تناولناه من قبل، يؤوّلها، يحلّلها، يُعمل فيها خياله ما شاءت له قدرته على الحبك والصياغة، يوظّف اللغة وينحت مفردات خاصة به، كل ذلك وصولًا لغاية وحيدة، أن يجذب القارئ إلى النص، أن يدفعه دفعًا لقراءته، أن ينقل القارئ من منطقة الدعة والأمان السردي لأخرى أشدّ توتًّرا في نفسه، فيصبح على غير ما كان قبل قراءة النص.

هكذا الأدب والقاص/ الروائي في صورته المتعارف عليه، وليد ثقافته وبيئته، ربما يتأثر بتجارب وثقافات أخرى قرأ لها أو عاصرها أو من سفريات ورحلات هنا وهناك، غير أنه يعود في النهاية لينكبّ على بيئته ومجتمعه المحليين ليكتب عنهما ولا مفر أمامه.

لكن… للهجرة تأثير على نفس ودخائل القاص، للغربة قدرة على سحق شخصيته وإعادة تركيبها في صورة مغايرة تمامًا. 

فالغربة هي البُعد عن المكان لآخر، لأسباب يعود بعضها لظروف اقتصادية أو مجتمعية أو سياسية، أخرى للعمق وداخل المرء نفسه، بقدر أن الغُربة في جزء منها نفي وهجران خارجي أو داخلي،(٥) لكنها تعيد صياغة رؤى الفرد ومعتقداته، قيمه، نظرته لنفسه قبل الآخرين، فيندفع المغترب لتوثيق ما عاشه من قبل حتى لا يضيع تحت تأثير زحام الحياة الجديدة، حتى يظل لديه معايير قيمية تفصله بعض الوقت عن محيطه المجتمعي الجديد.

كذلك تدفعه غُربته إن رُزق هبة الكتابة القصصية، للولوج في طرق سردية بعيدة عن المألوف.

كان لابد من الإشارة السريعة لتأثير هجرة المؤلف إلى أوروبا وبالتحديد “سويسرا” وبقائه بها سنوات كثيرة، أحدثت تغييرًا ولا شك على رؤيته للأمور، لذا جاءت مجموعته القصصية ” هير عباس العقرب” خير تعبير عن التأثير للهجرة، التأثر بالغربة. 

كما ذكرت لن أقف أمام العنوان، لكن فقط أشير إلى كلمة “هير”. التي أظن أن مقابلها بالعربية “السيد”، كلقب يُمنح للرجال. كأنما يعلنها ” العربي” صراحة: أن أكتب بالعربية عن قضايا مجتمعية برؤية مغترب تثقّف بثقافة أوروبية.

المجموعة جميعها، بقصصه الخمس والعشرين، تتصف ببساطة اللغة، تبعد عن التقعّر اللغوي، كثير منها ذكريات لمواقف حياتية قديمة، أعاد صياغتها ” العربي”، بأنامل مصرية سويسرية، مؤمنًا أو دون إرادة منه يقول أن العقل الغربي، يمّل البهرجة، يميل للبساطة بالأخص في السرد وصياغاته اللغوية، فكتب بلغة عربية، ابتعد من خطايا الكُتّاب العرب ممن يتعالون على القُرّاء بأنماط سردية غامضة تجعلهم يحيون في أبراج خاصة بهم.

ولأن المجموعة القصصية تتباين موضوعاتها، كل قصة منها عالم سردي مستقل، فالكتابة عنها جميعها في وقت واحد يبخسها حقها، يقلّل من قيمتها كثيرًا. 

ولأن للناس فيما يعشقون مذاهب، كذلك لا يمكن حصر أو ترتيب القصص في “الهيرعباس العقرب”، وفق أبجدية القوة السردية أو بتفضيل الأحسن نزولًا لما دون ذلك، فالإبداع ينتهي بخروج العمل للنور ووصوله ليد القارئ، فيأخذه كل كيفما يراه. يستحسن قصة يعلو بها ومن شأنها على حساب أخريات، يتباينون برؤاهم ويختلفون في رأيهم، لكن يظل للمجموعة القدرة على أن تجمع القُرّاء حولها، يتصارعون أو يتفقون، تلك طريقة ناجحة للقاص الماهر في جذب الجميع إليه ما بين مؤيد أو غير ذلك.

ولأنني -رؤية شخصية-لا أنفصل عن هؤلاء، فقد رأيت أو أقوى قصص المجموعة “الهيرعباس العقرب”، هي “هل ارتدّت فاطمة؟”

“فاطمة” البطلة المسلمة حاضرة في القصة، و”فرانشيسكا”، المقابل الآخر في الدين والثقافة، وبينهما الأستاذ “خليفة” مدرس اللغة.

بسيطة القصة للغاية في لغتها، نمط سردها، قد ذكرنا آلية الكتابة هنا، فقط نقف أمام ثقافة تقبل الآخر، نسير معه في خطيّن متوازيين، لكن يظل لكلّ عالمه، معتقده، ثم تحل الدهشة، تنقلب إلى تفتيش شفي الصدور عن سبب التحول في في ممارسة أنماط حياتية تحوّلت بمرور الوقت إلى جزء من المعتقد الديني ونقصد “شجرة الكريسماس”. 

على رغم أن “فرانشيسكا” تؤكد تاريخيًا أن هذا الاحتفال لا علاقة له بالدين المسيحي، أن السيد المسيح عليه السلام لو يولد في هذا التوقيت “الاحتفال بالكريسماس”، أنها مجرد عادة درج عليها الغربيون، انقلبت إلى تجارة رائجة، لكنها ترتدّ على أعقابها وتنظر بعين الريبة إلى فاطمة، يساورها قلق أن تكون قد ارتدّت، لمجرد أن صديقتها المسلمة، لم تر تثريبًا في شراء شجرة كريسماس، وتزيينها.

يصدمنا “العربي” في قصته أو يُعيدنا إن شئنا الدقة لمفهوم الحرية الشخصية “أنت حر ما لم تضرّ”، يؤكد من بين ثنايا النس وسطوره أن الإيمان لم يكن أبدًا سمة شخصية لصيقة بالمرء، أن الكل يقلق بشأن ممارسات الآخر، الكل ينصّب نفسه رقيبًا عقائديًا على الآخر. 

هل ارتدّت فاطمة؟

مثير للدهشة أن يضع القاص عنوانًا ينتهي بعلامة استفهام، كأنما يقول لنا هلموا إليّ أيها القرّاء، شاركوا في الإجابة على السؤال، ضعوا ثقافتكم جانبًا، اطرحوا مدنيتكم وليبراليتكم جوار أقرب حائط، أجبوا عن سؤال “فرانشيسكا”.. ثم مضى القاص وتركنا بنهاية مفتوحة، عبارة قاطعة على لسان “خليفة” عن الدين والتديّن والممارسة.. وووو 

لكن لا غرابة، فالقاص حينما يصبح مأزومًا بقضية حالة وقديمة في آن، لا تتعلق بالتعايش بين معتنقي الأديان فقط، بل بمنطقة أكثر خطورة، ونقصد بها أن ينفي طرف عن الآخر حقه في العيش أو رفض الخوض في ممارسات حياتية حكرًا على طرف دون آخر.

عندئذ يظهر المثقف الوضعي من داخله، يطرح القضية بصورة سردية، لا يُلزمك بحلِ لها، فهذه ليست وظيفته. 

ما أصعب على المرء أن يعيش في العتمة، وما أشقّ على القاص أن يحيا في نور وارف من حوله، يتجاهل مناطق العتمة في مجتمعه.. حسنًا ما فعله “العربي” في مجموعته، لعله كان الأبسط في اللغة، نأى بنصوصه عن التفذلك اللغوي، وركز على قيم محددة، يريد توصيلها للقارئ، وقد فعل ذلك بمهارة، ونجح في ذلك. 

تلك رؤيتي، أجر إن أصبت، وأربعة أجور إن تجاوزت في حق القاص ومجموعته الرائعة “هيرعباس العقرب”


(١)أنطونيو غرامشي فيلسوف ومناضل ماركسي إيطالي، ولد في بلدة آليس بجزيرة ساردينيا الإيطالية عام 1891، توفي العام 1937.

(٢)د. يوسف مكي، جريدة الخليج الإليكترونية، عدد يناير 2020، 

(٣)محمد الحداد، جريدة االحياة الإليكترونية، يونيه 2006، مفهوم المثقف النوعي، 

(٤)فضيلة سيساوي، محاولة لتحديد مفهوم المثقف، المجلة الاجتماعية القومية، المجلد الثاني والخمسون، العدد الثاني، الجزائر، مايو 2005، 

(٥)عباس حسن حاوي، الغربة في الشعر، أوراق ثقافية – بيروت – لبنان – يوليو 2019.


حسن العربي

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.