اللوحة: بعنوان «المسلخ العمومي» من أعمال الكاتب
لطفي شفيق سعيد

قصة من خيال الواقع من ثلاثة فصول
الفصل الأول
خرج جبر العايف من داره كعادته في صباح كل يوم متوجها إلى مصدر رزقه.
لم يكن يخطر ببال جبر، إن أمرا غريبا سيغير حياته في ذلك اليوم. وكان قد غادر داره عند الضياء الأول من النهار وهو الوقت الذي يخرج فيه معظم الكسبة من أجل تأمين قوت يومهم.
سلك جبر نفس الطريق الذي تسلكه الشغيلة في كل يوم. وبمجرد خروجه من داره بدأ الهواء الساخن يلفح وجهه، وهذا ما عرف عنه في مثل هذه الأجواء في شهر تموز من كل عام (وإن جميع أبناء بلدته يدركون ذلك أيضا). وهو أمر طبيعي فلن يمنعه ذلك عن مواصلة السير.
لاحظ جبر أن أعدادا غفيرة من الناس رجالا ونساء يحثون الخطى للوصول إلى مكان ما! وعليه أن يسرع هو أيضا ليتبين سبب ذلك (وهي حالة قد تميز فيها جبر وهي حب الاستطلاع).
قال جبر في نفسه: إنها محاولة جديرة بالاهتمام قد تعود علي بالفائدة.
خطر في بال جبر بأن الآخرين قد يفكرون في مثل ما يفكر فيه وعليه أن يسارع الخطى.
شعر جبر في قرارة نفسه أن الحالة هذه تختلف عن بقية الحالات التي خرج فيها سابقا من داره. واستدرك قائلا: قد يكون الأمر طبيعيا. فليس من المعقول أن يكون كل هؤلاء لا يعرفون سبب توجههم إلى ذلك المكان!
علي أن أتريث وأسأل أحدهم عن سبب ذلك عله يعرف. وأردف قائلا: كلا لا يتطلب الأمر السؤال علي أن أسرع أولا.
حينما وصل جبر إلى نهاية الطريق، وجد أن البعض قد سبقه والبعض الآخر قد تخلف عنه. حينذاك بدأت الشمس تلقي خيوط ضوئها على المكان مما مكنه من أن يتبين المكان الذي اندفعت اليه تلك الجموع وهو من ضمنهم!
عند ذاك رفع جبر بصره إلى أعلى فشاهد لوحة عليها عبارة بخط عريض وبلون أحمر!! أثارت العبارة في نفسه الريبة والقلق وعندها أخذ يردد بصوت غير مسموع: ما ذا يعني هذا المكان وماذا تعني عبارة المسلخ العمومي؟ ولماذا يهرع الناس للوصول إليه؟ وعلي أن ألج هذا المكان مع تلك الجموع، وأضاف وليكن، بالرغم من كون الهدف لا زال غامضا عندي، ولكن، علي أن أسأل أحدهم وقد يكون عنده ما يكشف السر.
وما أن أقترب منه أحدهم بادره بالسؤال عن سبب توجه الناس إلى ذلك المكان والمعروف بالمسلخ العمومي. أجابه أحدهم ردا على سؤاله: اعتقد وعلى ما سمعته من أحد المسؤولين إنهم سيوزعون اللحم والدجاج في هذا المكان وعنوان المكان يشير إلى ذلك وهو مسلخ! وأردف قائلا: قد تكون حصة إضافية على البطاقة التموينية!
دخل جبر إلى ذلك المكان فوجده يختلف كليا عن بقية أمكنة مدينته! يبدأ المكان بسلم طويل يتجه إلى أسفل.
لم يتمكن جبر من معرفة عدد درجات السلم بسبب الارتباك والدهشة التي اعترته إضافة لطول الدرج والازدحام من كثرة عدد الناس المستخدمين لذلك الدرج.
بعد أن تمكن جبر من النزول وجد نفسه وسط قبو شبه مظلم عدا بعض الشموع تبعث بصيصا من الضوء في أنحاء منه، إضافة لذلك فقد كانت تفوح منه رائحة غريبة أشبه برائحة البخور. تلك الرائحة التي أعادت لذاكرته الأمكنة التي كان يجدها في المزارات والمدافن والأعراس!!
ما أن استنشق جبر تلك الأبخرة والروائح حتى أصيب بدوار أشبه ما يكون في أخذه جرعة من الأفيون. وبالرغم من حالته تلك فقد تمكن أن يتماسك ويسيطر على ارتباكه ليعرف ما يدور حوله في ذلك القبو.
أجال جبر نظره في أنحاء القبو العديدة ليتأكد مما يجري هناك.
لقد تمكن من التعرف على بعض المشاهد والتصرفات التي بدت له غريبة ومريبة جدا وبعيدة عن المألوف!
كان جبر يمتلك بعضا من صلابة جأش بسبب ما مر فيه سابقا من مواقف صعبة أثناء مثوله أما لجان التحقيق، وخلال انتزاع اعترافات منه تحت التعذيب، أضافة لمكوثه في غياهب السجون والمنافي البعيدة لعدة سنوات. لذلك فإن أول ما تعرف اليه وما وصل إلى ذهنه هو ذلك الصوت الأجش الذي رددت صداه جدران القبو المعتم وهو يصرخ لمرات عدة: على كل الموجودين في القبو أن يخلعوا ملابسهم ويتعرو بالكامل!!
ما أن سمع جبر هذا النداء حتى راح بخاطب نفسه: لابد أن أجد مخرجا وأنفذ بجلدي قبل أن أخلع ملابسي. ولكن قبل ذلك علي أن أراقب من بعيد ما سيحصل هنا في هذا القبو الغريب والرهيب! وأضاف: وبذلك سأكون شاهد عيان وأنقل الحقيقة للناس الآخرين في الخارج كي لا ينخدعوا.
انتبه جبر بوجود لافتات عديدة تغطي جدران القبو وإنه بالكاد تمكن من أن يقرا بعضا منها وذلك بسبب عدم وجود ضوء كاف، فتبين له أنها هي نفس الشعارات التي كان البعض يطلقها في المناسبات لخداع الناس وابتزازهم والتلاعب في مشاعرهم.
تمكن جبر من قراءة البعض من تلك الشعارات وبشكل متقطع!!: بالروح بالدم… الموت والموت… ثم… الموت حتى الشهادة.. يسقط… يعيش …الوطن… الحرية… المستقبل…الخبز… أين حقي؟
ارتعدت فرائص جبر حينما شاهد ماكينة كبيرة وغريبة الشكل تنتصب وسط القبو. ومن ثم عاد ذو الصوت الأجش يصد أمرا آخر يختلف عن السابق: على جميع من تعرى أن يقف بالطابور إزاء الماكينة صفا واحدا !!
وما أن دخل واحد من ذلك الصف إلى الماكينة حتى انطلق صوت الأجش يصرخ بأمر جديد، ارتعدت فرائص جبر من شدة الصوت الأجش المجلجل ومن الأمر الذي أصدره، وهو: شغل: أسلخ!
دوت الماكنة بصوت أشبه ما يكون بإزالة شريط لاصق من مغلف محكم أعقبتها موسيقى صاخبة أشبه ما تكون بمارشات عسكرية إضافة لترديد بعض الأناشيد الحماسية!
خرج الرجل المسلوخ من الباب الخلفية للماكنة. ثم عاد الصوت الأجش يردد هذه المرة صوتا حنونا يختلف عن المرات السابقة مفاده: بالعافية ومبروك عليك ستكون من الآن إنسانا وديعا تخلو حياتك من المشاكل والطلبات الكثيرة!!
أستمر جبر يراقب من مكانه المخفي عن الأنظار ما يجري داخل القبو. وخلال ذلك راودته فكرة مخيفة وتساءل مع نفسه: كيف سيكون مظهره وشكله أمام الناس وخاصة أمام أهله لو تم سلخ جلده أسوة بهؤلاء، وهل سيتعرفون عليه بعد سلخ جلده، بعد اختفاء تفاصيل جسمه وقسمات وجهه لو أنه رضخ لأوامر صاحب الصوت الأجش؟
أبعد جبر ذلك الكابوس من رأسه واستمر بالمراقبة. أطلق جبر صرخة مكتومة قائلا: يا للهول إن المسلوخة جلودهم يقفون صاغرين بصفوف متراصة أمام أحد جدران القبو ولا تظهر عليهم أية علامة استنكار أو رفض، وهم في حالة لا يمكن تميز واحدهم عن الأخر بسبب اندثار سيماء وجوههم، والأغرب من ذلك فقد أصبحت أشكالهم الجديدة بعد سلخ جلودهم أشبه ما تكون بالسحالي الملساء!!
تابع جبر من موقعه مشاهداته وقال في نفسه: لأتابع ما حل بجلود تلك الزمرة التي خرجت من الماكنة بعد سلخها.
وتمكن جبر من أن يدرك ما حل بالجلود وأخذ يردد مع نفسه: يا لهول ما أراه الآن.! فهنالك مجموعة مسلحة تخفي وجوهها بأقنعة تقف بجانب الماكنة وتتلقف جلد المسلوخ وتذهب به إلى موقع في جدار القبو لغرض تعليقها هناك بخطافات حديدية!
عقدت الدهشة لسان جبر حينما رأى تلك الجلود وهي معلقة في الخطاف وأياديها متجه إلى أعلى وكأنها تشبه حالة استسلام جنود خلال معركة خاسرة!!
لقد تسنت فرصة مواتية لجبر لينفذ بجلده ووجد هنالك في القبو ممرا سريا يفضي إلى الخارج. خرج جبر سالما معافى من القبو وأطلق ساقيه في الريح ليصل إلى بيته قبل إن يلحق به واحد من جماعة الصوت الأجش.
وفي غرفة الضيوف في بيته أخذ جبر يسترجع أحداث ذلك اليوم الرهيب وورد سؤال في ذهنه: كيف سيبدو مظهر الذين قد تم سلخ جلودهم عند وقوفهم أما كاميرات المحطات الفضائية؟ وهل سيتمكنون من الإدلاء باعترافاتهم، ويبينوا للمشاهدين كيف خدعتهم الدعايات والشعارات الزائفة، وكيف جرتهم أقدامهم إلى هذا المصير السيء، وكيف فقدوا أهم ما يحتفظون به في حياتهم وهي قسمات وجوههم وطبعات أصابعهم التي تميز الواحد عن الآخر، والتي هي الشاهد الوحيد على إثبات شخصياتهم؟
قبل أن تأخذ جبر سنة من النوم رن جرس هاتفه النقال ومن الطرف الآخر ردد صوت أجش قائلا بحدة وغضب: ألو، هل أنت جبر العايش؟
انتفض جبر من غفوته ورد على المتصل: ألو، ألو من المتكلم؟
أنقطع الاتصال!!