البردة

البردة

اللوحة: الفنان الجزائري صالح المقبض

ماهر باكير دلاش

صُرُوفُ الزَّمَانِ قد بَانَتْ نَوَاجِذُهُا

والبَاطِلُ قرُونُهُ بَدَتْ كَأَنَّهُ أَيْلُ

فكَيْفَ نَنْسَى وَإِن ضَاقَتْ بِنَا الْحِيَلُ

كَيْفَ نَنْسَى أَنَّ اللَّهَ هو الْخَيْرُ وَالْأَمَلُ

هَجَرْنَا دِيَارًا لنا فِيهَا صَحْبٌ وأَحبَابٌ

وَالدِّيَارُ مَا زَالَتْ هِيَ القَلبُ وَالْمُقَلُ

أَهْل الدِّيَارِ لَسنَا لَكُمْ سَنَدٌ وَلَا عُقَلٌ

فَالَّلَهوُ دَيدَنٌ لَهُ خُرْجٌ وَلَهُ رَحْلُ

***

لا سَقَى الَّلهُ حَيَاةً بِلَا كَرَامَةٍ، ولا

من قَالَ: الفَأْلُ سَهلٌ والنحسُ زُحَلُ؟!

مَالِي أَرَى الْجُفُونَ مَا تَنْفَكُ ذَابِلَةً

وَفِي عَتَمَةِ اللَّيْلِ دَمْعٌ بِه وَجَلُ

أَلَيْسَ فِي طَلْعَةِ الشَّمْسِ بَارِقٌ

فَلَا سُهَيْلٌ فَأَلٌ وَلَا نَحْسٌ زُحَلُ

***

قَرَّتْ الأَعيُنُ وانشَرَحَ الصَدْرُ

وَانْهَمَرَ مِنْ بَعْثِ النَبِيِّ لنا الهَطْلُ

جَاءَنَا نَبِيُّ الْهُدَى فَارتَوَينَا

كَارتِوَاءِ الْقِفَارِ إِذا جَاءَهَا الْوَبْلُ

كنا فِي لَيْلِ تِيهٍ نُكَذِّبُ فَجرَنَا

وَقَدْ تَجَلَّى الفَجْرُ لَنَا لَهُ ظَلَلُ

مَا هَمَّ الْبَدْرَ حُسْنَ اكْتِمَالِه وَلَكِنْ

رَأَى وَجْهَ طَه فَالتَفَّ كَأَنَّهُ الرَبْلُ

وَمَا جَاءَ مِنْ رَحِمِ أُنْثَى مِنْ بِذْرِةٍ

أَجْمَلُ وَأَبهَى مِنْ وجهه الخَضْلُ

قد‏ قَالَ الشُعَرَاءُ بِالعِظَامِ قَصَائدًا

والشِعرُ بِمُحَمَّدٍ أَعظَمُ وَأَكْمَلُ

شِعرُ المَجْدِ فِيهِ يَتْبَعُ ظِلَّهُ

لا يَشُوبُهُ خَلَلٌ، لَيسَ لَهُ مِثْلُ

سَيَّدَ الثَقَلَينِ مِنْ جِنٍّ وَمِنْ إِنْسٍ

إِمَامُ العَالَمِينَ يَتْبَعُهُ الرُسلُ

سَأَنظُمُ لَهُ قَصِيدَةً مَا قَالَهَا قَبلِي

بنُ ثَابِتٍ وَلَا كَعْبٌ وَلَا الْهَبَلُ

إِنْ قُلتُ بِمُحَمَّدٍ شِعْرًا فَلَغْوٌ

فَهُوُ القَصِيدُ والشَّهدُ والعَسَلُ

***

تَظُنَّ أَنَّ هَوَى النَّفْس لَيْسَ لَهُ قِبَلٌ

فَهَلْ هَوَى النَّفْسِ لَيْسَ لَهُ قِبَلُ؟!

نَزِّهْ النَفْسَ عَمَّا يَدْنَسُها وَاسْمُ بِهَا

ولا تُحَسِّي كَأْسَهَا الفَاسِدُ النَّغِلُ

ولا تَكُنْ كالَّذِي دَارَ الأَصقَاعَ هَائِمًا

يرُودُ الْفَيَافِي لا صَدِيقٌ له وَلا خِلُّ

ثم زَلَّتِ بِه الأَقْدَامُ فِي دَرْكِ الهوى

وسَاوَى بَيْنَهَا الْفَرْعُ وَالأَصْلُ

مَنْ يَرْضَ بِالذُّلِّ تَهُنْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ

وَمَيِّتُ النَّفْسِ فِي خُلُقِهِ دَخَلُ

وَمَنْ بَاعَ النَّفْسَ وَالرَّأْسُ بَيَاضٌ

فَاعْلَمْ أَنَّهُ بَاعَهَا وَالرَّأْسُ كُحْلُ

***

وَإِن هُمُومُ الدَّهْرِ أَرْخَتْ سُدُولهَا

وَظَننت أَنَّ هُمُومَ الدَّهْرِ لَهَا وَبَلُ

لتعلم أَنَّ الْحَيَاةَ لَيسَتْ أبَدِيَّةً وما

عَاشَهَا مُحَمَّدٌ وَابْنُ مَرْيَمَ وَالْكِفْلُ

ومَا عَاشَهَا السَلَفُ الْأَوَّلِ وَلَا

كُلُّ مَنْ عَلَى الْبَسِيطَةِ أَوَّلُ

مَآلُكَ الْحُفْرَةَ تَكُنْ فِيهَا وَحِيدًا

لَا مَشْرَبٌ بِهَا لِلظَمْآنِ وَلَا أُكْلُ

***

نُطِيلُ فِي الدُّنْيَا آمَالنَا و

الآمَالُ فِي الدُّنْيَا غُفلُ

فَهَلْ كَانَتْ الدُّنْيَا لَنَا مَنزِلًا

أَلَيْسَتْ هِيَ الْخِدَاعُ والْخَبلُ؟

هَلْ لَنَا فِيهَا مِنْ سِعَةٍ أَو خَيرٍ

هَلْ لَنَا فِيهَا وَعْدٌ بَعْدَهُ مَطْلُ؟

إلى ربِّكَ يَومَئذٍ الرُجعَى فَلَا

طِفلٌ يَبقَى ولا يَبقَى كَهلُ

وَلَا شَمْسٌ تُضِيءُ وَلَا قَمَرٌ

يُنِيرُ وَلَا ثَوْرٌ وَلَا حَمَلُ

***

اخْتَرْ مِنْ الْأَصْحَابِ أَتقَاهُم فمنَ

الْأَصْحَابِ مِسْكٌ وَمِنْهُمْ الْمُهْلُ

كَمْ مِنْ صَاحِبٍ خَانَ صَاحِبَهُ

فَكَانَ كَالشَّيْطَانِ لَيلُهُ كُحْلُ

وَكَمْ مِنْ صَاحِبٍ طَعَنَ بِالْغَدْرِ

قُلُوبًا، وَكَانَ يَوْمًا لِلْوَفَاءِ وَصْلُ

وكَمْ مِنْ صَدِيقٍ كَانَ لِلْمَوَدَّة قَاطِعًا

وَكَان النَّأْيُ عَنْهُ أَرْجَى وَأَمْثَلُ

ثُمّ بِتْنَا نَهذِي مِنْ بَعْضِ الْمُصَابِ

وَأَصْعَبُ الْمُصَابِ مَا بِهِ قَتْلُ

وَبَيْنَ لَيْلَةٍ وَضُحَاهَا مَا عَادَ

لِلصَّدِيقِ عَهْدٌ عِنْدَهُ وَلَا إِلُّ

وَكَمْ مِنْ صَدِيقٍ قَدْ سَاءَتْ سِيرَتُهُ

فَأَصْبَحَ كَالْأَدِيمِ مِنْ تَحْتِهِ وَثَلُ

***

مِنْ أَرَادَ الْعَيْشَ بِسَعَادَةٍ

تَخَيَّرَ مَا يَقُولُ وَمَا يَفْعَلُ

فرُبَّ كَلِمَةٍ قِيلَتْ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا

فَاحَ مِنْهَا الأَسَنُ والدَفَرُ وَالذَّحْلُ

إذَا كَانَ الْفِعْلُ يُصِيبُ الْجَسَدَ بِمَقْتَلٍ

فَإِنَّ فِعْلَ الْكَلَامِ فِي النَّفْسِ أَقْوَى وَأَقْتَلُ

***

حَتْفُ الْفَتَى فِي لِسَانِهِ إنْ

كَانَ حُسْن الْكَلَامِ يَجْهَلُ

اللِّسَانُ فِي فَمِ الْأَحْمَقِ

عَقْرَبٌ فِي ثَنَايَاهُ الْمَقْتَلُ

وَكُلُّ امْرِئٍ مَعْقُودٌ بِطَرْفِ

لِسَانِهِ وَهُوَ بِهِ مُوَكَّلُ

فمَنْ لَمْ يَحْفَظْ مَاءَ الْوَجْهِ

بِلِسَانِه فَمِنْهُ الْهَيْبَةُ تَذْبُلُ

وَمَنْ كَانَ فِي الذُّنُوبِ غَارِقًا

فَهُوَ فِي الْحَيَاتَيْن مُهَانٌ مُذَلَّلُ

يَتْبَعُ فِي الْحَيَاةِ كُلَّ رِجْسٍ

وَهُوَ فِي الدُّنْيَا زنيْمٌ عُتُلُّ

هَلْ سِيرِثُ مِنْ الدُّنْيَا رَبِيعِهَا

أَمْ أَنَّهُ ذُو عِلْمٍ عَلِيمٍ وَكُلُّ؟

أَمْ أَنَّهُ فِي الْمَعَالِي سَابِحًا

وَفِي الْوَيلَاتِ نَهِلٌ وَعَلُّ؟

أَمْ أَنَّهُ لِلنَّاس رَأْسٌ وَجَبَلٌ

أَمْ أَنَّهُ فِي أَعْلَى الْخَلْقِ تَلُّ؟

فإذَا كَانَ فِي حُسْنِ الْكَلَامِ فَضِيلَةً

فَفَضِيلَةُ الصَّمْتِ أَبْهَى وَأَجْمَلُ

***

غَدًا تُوَفَّى النُّفُوسُ مَا كَسَبَتْ

‏وَلَا يَبْقَى مِنْ الدُّنْيَا جِدٌّ وَلَا هَزْلُ

‏فَمَنْ أَحْسَنَ فَازَ بِرِضَى الْمَوْلَى

‏وَبَابُ الْمَوْلَى لَيْسَ لَهُ قُفْلُ

لَا تَجْعَلْ حَالَكَ مِثْلَ أَرْضٍ قَاحِلَةٍ

لَا مَاءٌ يَنْبُعُ فِيهَا وَلَا غَوْرٌ وَلَا ضَحْلُ

تَلْهُو وَتَضْحَكُ وَأَنْتَ فِي ذُلّ

النَّفْسِ فَلَا مَحْيًا وَلَا مُحْلُ

ثِقْ بِاَلَّذِي خَلَقَ الْوَرَى، وَدَعْ

عَنْك الْخَلْقَ فَهُوَ لَك أَكْمَلُ

أَلَا إِنَّ الإِنسَان يَشُبُّ على فِطَامِهِ

كَالرُّطَبِ كَانَ في بُرعُمِهِ السُّخَّلُ

الْإِنْسَانُ لَا بُدَّ إلَى أَصْلِهِ مُنْجَذِبٌ

فَالْأَصْلُ بالْإِنْسَانِ دَوْمًا مُتَّصِلُ

يَا سَائلًا عَمَّا يُذْكَرُ بِهِ الْفَتَى أَلَيسَ

هو الخُلُقُ وَالْعَطَاءُ وَالْبَذْلُ؟

فلا تَجزَعْ لِحَادِثَةِ الليالي

لَا بُدَّ أن تَمُرَّ بنا الغَلَلُ

ولا تُبقِ في القَلبِ مِنْ غِلٍّ

وَكُنْ دَومًا الأَوَّلُ الرُّعْلُ

***

ذَاكَ هُوَ دَأْبُ الزَّمَانِ

صِبًا يَتْلُوهُ هَرَمٌ دَلُّ

‏كَمْ مِنْ عَزِيزٍ غَيَّبَهُ الزَّمَانُ

‏وَكَمْ مِنْ فُؤَادٍ خَامَرَهُ الْكُحْلُ

وَكَمْ مِنْ وَرَلٍ صَارَ أَسَدًا

وَكَمْ مِنْ أَسَدٍ صَار جُعَلُ

نَرْكَضُ فِي الْأَحْلَامِ لِنَرَى حَالَنَا

وَالحَالُ هو التَفْصِيلُ وَالجُمَلُ

أَلَيسَتْ الأَحلَامُ هِيَ مَطِيَّتُنَا

إِلَى جَهْلٍ يَعقُبُهُ الخَبَلُ؟!

نَظُنُّ أَنَّهَا الحَيَاةَ وَأَنَّهَا

هي الأَسِيلُ الأَسَلُ!!

فَغَابَ الكُحلُ عن الرِّمْشِ

وَبَقِيَ الظِّلُّ وَغَابَ الأَصْلُ!!

***

حَوَى السَّلَفُ مِنْ الْمَجْدِ غَايَاتَهُ

وَنَحْن يَحْوِينَا اللَّهْوُ والرَّذْلُ

الْخَيْلُ إذَا حَمِيَ الْوَطِيسُ تَصْهَلُ

مَا بَالُ خُيُولُنَا صَارَتْ لَا تَصْهَلُ؟!

هَلِ الفَضْلُ في الحِلْمِ وَحْدَهُ أَمْ

أَنَّ الجَهْلَ في بَعضِ الأَوقَاتِ أفَضْلُ!

كَمْ مِنْ خَلِيلٍ كُنْتُ ترْجُو وُدَّهُ

وَالرَّجَاءُ بِوَجْهِ الْمَوْلَى أَجْزَلُ

ألَا يُذْكَرُ الْمَرْءُ إلَّا بأصله؟ واليوم

يَعْلُو مِنْ الرِّجَالِ الرَّجُلُ الأَضَلُّ

***

الْحَرْفُ عَلَى اتِّسَاعِهِ بَاتَ ضَيِّقًا

وفي الأَفوَاهِ كَأَنَّهُ الحَنْظَلُ

فَلَا تَعَجَبَنَّ إِنْ رَأَيْتَ الشَّمْسَ

قَدْ أَفَلَتْ، فنُورُ الاسلَامِ لا يَأْفَلُ!

إِنَّ أَبْلَغَ الْكَلَامِ سَهْلٌ نَدِيٌّ،

أَلَيْسَ أَبْلَغَ الْكَلَامِ هو الرَّهْلُ؟

***

الْقُرْآنُ هو الْجَوَابُ لِكُلِّ سَائلٍ

فَهُوَ النُورُ وَكلام الله المُنزَلُ

أَدعُ اللَّهَ أَنْ تَكُونَ لِي مَنِيَّةً

بَعْدَهَا فِي الْفِرْدَوْسِ أَرْفُلُ

فَإِنْ أَنَا ثَقُلتُ فِي مَطْلَبِي

فَمِثْل اللَّه مَنْ لِلْعَبْدِ أَحمَلُ؟

رِقَّ لِي زَمَانِيّ فِيمَا مَضَى

فَأَمْسَى العُمرُ الْيَوْمَ زُّلُّ

تَفِرُّ لَهُ الْبَرَايَا فِي وَجَلٍ

وذَاكَ هُوَ الْيَوْمُ الْفَصْلُ

فاذْهَبْ إلَى رَبِّكَ وَارْجُ عَفْوَهُ

فَاَللَّهُ هُوَ الْحَيُّ الَّذِي لَا يَغْفَلُ

أَحْسَنْ بِهِ الظَنَّ فَمَا لِقَضَائهِ

رَدٌّ وَلَا جَوْرٌ وَلَا خَتْلُ

الْيَوْمَ قَدْ أَكْمَلْتُ بُرْدَتِي وَ

بِعَونِ اللَّهِ الْقَوْلُ وَالْعَمَلُ

رأي واحد على “البردة

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.