اللوحة: الفنان الهولندي فنسنت فان خوخ
محمد عطية محمود

اخترقت القراءة عالمي الوجداني منذ بواكير صباي وتدرجي في مراحلي الدراسية الباكرة جدا، والتي كنت أجد فيها ملاذا من خلال تلك الكتب التي كانت تزيّن مكتبة المدرسة الأولية، وكنا ننتقي ـ قسرا ـ منها في حصة “القراءة الحرة”، لاستيعابها ومحاولة تقديم رؤية تلخيصية متواضعة فيها.. وكنت أبرع في ذلك مع استغرابي لذلك الأمر، أن أخرج من هذا السجن المعرفي القسري، بهذه القيمة من الجمال والمعرفة وتأصيل جذور القراءة والكتابة في وعيي وضميري ـ في الوقت الذي لم يكن فيه لديّ في المنزل مكتبة، بل ولم يكن هناك من يقرأ من أفراد العائلة بالصورة الكافية أو المرضية أو المحفزة على ذاك الفعل..!! ـ
ذلك المد الذي استمر معي لأبدأ في كتابة الأبحاث التاريخية والأدبية في مرحلة لاحقة باكرة أيضا من مراحل تعليمي. أعتقد أن هذه هي البذرة الصغيرة التي نمت على مدار الأيام دونما وعي مني، لتتحول إلى طاقة أكبر في التهام الكتب الأدبية والحرص على قراءتها العميقة، أيضا من خلال المكتبة المدرسية التي صارت تمثل ركنا هاما لديّ؛ ففي المرحلة الثانوية قرأت بدايةً ليوسف إدريس، إحدى مجموعاته القصصية، ولنجيب محفوظ إحدى رواياته التاريخية، ولمحمد عبد الحليم عبد الله أيضا إحدى رواياته الكلاسيكية، وآخرين لا تستوعبهم الذاكرة الآن!! ومن خلال المكتبة أيضا، وككتاب لم أكن أعي بقيمتهم الحقيقية، لكن عندما تمرست على القراءة مع ظهور بوادر تجربة الكتابة، في تلك المرحلة أيضا، من خلال بعض الخواطر الشعرية الممتزجة بخيط شبه درامي في مجملها، فقد تنبهت لذلك ومن ثم بدأت في قراءة بعض النماذج الشعرية والنثرية للعديد من الكتاب، وانفتحت الدائرة المغلقة قليلا لأقرأ لكتاب عرب وأجانب لم يكونوا أيضا في الحسبان فتعرفت على المزيد من الكتب والأسماء التي بدأت تقربني من الدخول في غمار دائرة كبيرة كنت أخشى الاقتراب منها، فللأدب والإبداع رهبة كبيرة لا يشعر بها إلا أديب يتوجس في نفسه من هذا الأمر الشاق المضني، حتى يصاب بهذه الفتنة، فتنة الإبداع المرتبطة بالقراءة وسبر الغور، وصقل المهارات وتوسيع الأفق ذهنيا وتقنيا ومعلوماتيا، ذلك ما يؤدي حتما إلى تفجير طاقات الإبداع، وطاقات أخرى من مهارات التعامل مع الحياة وأنماطها المتغيرة بفعل الإبداع..
صعبٌ أن ننسب فضلا لكتاب دون آخر، أو أن يتميز كتاب في الذاكرة على آخر، أو في مساهمته في تكوين الفكر وبللورته وإيجاد رؤية متميزة نحو العالم بصورة عامة؛ فقد يكون الكتاب ضئيلا في حجمه، أو ليس معروفا ومنتشرا لمحدودية انتشار كاتبه، لكن تأثيره قد يفوق تأثير العديد من الكتب الإبداعية والفكرية، أو التي تحمل المذاهب الفكرية والنقدية والفلسفية المتعارف عليها.. لكن ما حفر في ذاكرتي وساهم في تكويني المعرفي والحسي تلك الفترة التي أخلصت فيها لقراءة أعمال الكاتب العالمي “نجيب محفوظ”، لأدخل غمار عالم روائي شديد الخصوصية والإمتاع، وليعطيني رصيدا هائلا من المعرفة اللغوية والمجتمعية والتاريخية المرتبطة في نهايتها بعجينة الإبداع وتوهج الرؤى.. (والعجيب كيف أني ارتبطت نقديا بهذا الكاتب العظيم، من خلال كتابي النقدي الأول عن كتبه أو بالأحرى عالمه القصصي/ الكنز الذي لم ينضب ولن ينضب فهو عالم بكر لم يقترب منه الكثيرون الذين انشغلوا بأعماله الروائية على حساب أعماله القصصية المبهرة).. تلك الفترة التي تزامنت مع قراءاتي المتعمقة لأمير القصة العربية “يوسف إدريس”، ومن خلال مجموعته القصصية الفارقة “أرخص ليالي”، وتفتح مداركي على أعمال الكاتب العظيم، “أنطون تشيكوف” الذي أعطتني قصصه هذه الحيوية وهذه الرؤية التي اختلفت عن رؤيتي من خلال أي كاتب للقصة القصيرة فيما عداه، ولا تزال أطياف قصصه البارعة العميقة في الوعي المدرك المتحفز للمزيد من المتعة والانجذاب الساحر لفعل الكتابة والإبداع والتميز.
كل ذلك مما ساهم وشكّل وعي القرائي، ومن ثم وعيي بما أكتب وبما حولي.. ذلك في الفترة الأولى أو المرحلة التي امتدت من صباي حتى توقفي عن الكتابة لمدة عشر سنوات لظروف الحياة، والتي لم تنقطع فيها القراءة كلية، برغم تلك المصاعب.. كانت قراءات شحيحة، ولكن أعتقد أنها كانت واعية منتقاة..
فتنة الرواية.. فتنة النقد
بعد العودة إلى الكتابة، على أعتاب الألفية الجديدة، بدأت في مرحلة قرائية مغايرة، لم أكن قد خضت غمارها من قبل، أو لم أنتبه إليها وهي معانقة العديد من نماذج الأدب العالمية، وكان احتياجي لصقل مهارات التعامل مع فن الرواية برؤيتها الكونية الشاملة التي تمتح من كافة التأثيرات الإبداعية والفكرية والتاريخية، دافعا لأن أكشف لذاتي سر هذه القارات المجهولة لديّ والتي أعاقني عنها إلى حد كبير توقف المد القرائي والإبداعي في كل تلك الفترة السابقة الكبيرة بالنسبة لأي مبدع أو كاتب تعافه الكتابة أو يقصر عنها؛ فالتصقت عن قرب بـ”ماركيز” من خلال “مائة عام من العزلة” و”الكولونيل لا يجد من يكاتبه” و”وقائع موت معلن”، وغيرها، وفتنتني رواية “كل الأسماء” لساراماجو، برغم شبه إجماع الأصدقاء المبدعين على عدم قدرتهم على إكمال قراءتها، ثم قرأت له ـ في تلك الفترة ـ “الطوف الحجري”، وكذلك “سيميائي” باولو كويلهو، و”عطر” باتريك زوسكيند”، وأعمال ميلان كونديرا الروائية والنقدية، وغيرهم بالطبع
لا شك أن الأثر الباقي لتلك القراءات في النفس، هو أثر تكويني تراكمي، يغيِّر كثيرا من مسارات الحياة وتوجهاتها، ويعطي نوعا ما من الاستقرار النفسي والشخصي للذات المبدعة التي تتكيء في هذه الحالة على مخزون معرفي نهم للمعرفة متطلع إليها بشكل مغاير عن تلك المعرفة التي يبتغيها القاريء العادي أو الممارس فقط لعملية القراءة والمتابعة الإعلامية والحياتية اليومية، لأنه ولا شك فإن عملية سبر الغور بالنسبة للكاتب هي عملية تنقيب عن ذاته واكتشافها كما قلت، فهي التي تفتح له خزائن لا قبل له بها من قبل، وهو ما أتاح لي على المستوى الشخصي أن أخوض غمار الكتابة النقدية التي تتخذ من الإبداع متكأ ومنهلا عذبا يستقي روح الإبداع المتمايزة التي تستطيع اختراق تلك الحجب وتلك الحواجز التي يضعها النقد التقليدي المطبوع والذي يمارسه كهنة لا يستطيعون أن يخرجوا من إطار قوالبهم المنمطة المكرسة لفعل التقديس في غير محله، فلا قداسة للفن أو الإبداع أو النقد إلا تلك التي يستقيها من قيمة العمل الإبداعي لا النمط السائد المقولب.. وهي في ذات الوقت حالة متغيرة لا ثابتة، لكنها تحتفظ بقيمة وجودها واستمرارها كقيمة..
في اعتقادي أنه لولا القراءة والمعرفة ومحاولات اختراق قشرة الوعي وسبر الغور ما كان هناك إبداع ولا نقد إبداعي مرتبط حتما بحركة الإبداع لصيق بها، متنام معها إلى أقصى درجات الارتباط؛ فمن أين نستقي قناعتنا وصقل رؤانا إن فقدنا المورد العذب التي يمد الحياة بشرعية وجودها، إلا عن طريق إبداع ومعرفة متلاصقين متحابين مقترنين برباط التكامل والامتزاج، ذلك الذي يسير الإبداع في شتى مجالاته وليست الكتابة فقط؛ ففعل الثقافة هو أن تشاهد وتسمع وتختزن وتتجول وتقابل وتحادث وتختبر ذائقتك، كنوع من قراءة الواقع من حولك واستنباط حقيقته واستجلائها، وما هي إلا نتاج للقراءة المخلصة، التي تشحن طاقاتك الإبداعية والعقلية والذهنية، ما يجعل ذهنك متوقدا دائما، ومتربصا لحالة ما من الإبداع لا تدري وقت انطلاقها كالمارد من قمقمها، من خلال تأثيرها الانفعالي….
والنماذج القرائية المؤثرة في الوعي الثقافي والإبداعي، كثيرة وهي زائدة عن الحصر، وبالغة الأهمية، وتتزايد كل لحظة، فلا نستطيع إنكار فضل فكرة تجدها في قصاصة ورقية قد تكون ملقاة أو مهملة أو مغطاة بأغبرة الزمن وعكارته، أو فصل من كتاب أو كتيب صغير تلقاه عارضا فيغير من آلية فكرك ويفك طلاسم عدة، ويحلل شفرة أشياء كانت غائبة عن وعيك. فضلا عن قراءة لوحة فنية أو عمل تشكيلي فذ يحرك فيك مكامن الإبداع، وربما أبدعت عملا روائيا متميزا موازيا له أو متناصا معه.. فضلا عن صفحات الوجوه التي ربما حارت فيها كل القراءات، وربما استمد منها عنفوان الحياة وخبرتها وإشعاعها وخبوها في ذات الآن.. “القراءة بالنسبة لي هي: عالم خاص/ عام/ متكامل..!!”
محمد عطية محمود قاص وناقد مصري