هيام علي الجاويش
اللوحة: الفنان الفلسطيني هاني خوري
عندما يخلق الله الانسان، يكون مكتملا وأجهزته مكتملة، العين، الأذن، جهاز الهضم، جهاز التنفس.. الخ. أما وعيه فمعدوم، عليه هو أن يرفع غطاء خزان وعيه ليسقط فيه كل ما يتعلمه من خبرات وتجارب، ثم يرتب محتوياته ويضيف ويزيل منه طوال فترة حياته، فمنهم من يمضي حياته بدون وعي أو ببعض وعي أو ينضج ويمتلك وعيا. وكل حسب سعيه.
***
قالت لي: اسمعي كي تفهمي، الزواريب الضيقة والتي نجبر طائعين على سلوكها مع ما تحمله من معاناة ونكتشف فيما بعد أنه كان لا بد منها كي ننضج ونتعلم، ونعي معارك وتجارب الحياة، حلوها ومرها. كنت أنا وأمين رفيقين، أمين ابن عمي يكبرني بأربع سنوات، ومنذ دخولي إلى المدرسة كان يأتي لاصطحابي لمدرستي، وعند نهاية الدوام ينتظر خروجي ليعود بي إلى البيت، ولا يذهب لبيته إلا بعد أن يطمئن أنني أصبحت داخل البيت بعد أن بسمع صوت أمي تناديه بالدخول فيسلم عليها ويتابع طريقة، كنا نقضي معظم أوقاتنا مع بعضنا البعض إن كنا منفردين، أو مع العائلة فنمت مشاعر بيننا غير مفهومة في تلك المرحلة، ولأنني أكبر إخوتي ولا أخ كبير عندي كانت أمي تصر عليه أن يرافقني إلى أية جهة، فكان يوصلني حتى عند صديقاتي، وعند انتهاء زيارتي يأتي كي أعود معه إلى البيت، وتكون أمي أكثر اطمئنانا علي معه أما أنا فكنت أستمتع برفقته جدا، دون أن احدد سبب استمتاعي سوى أنه لبق وجميل ولطيف ويخاف علي ، ثم هو قريبي.
ذات يوم، كنت لم اتخطى الابتدائية بعد، وهو في بداية المرحلة الثانوية حملت كتبي وذهبت لأمين كي يساعدني في حل واجب مدرسي. كانت زوجة عمي في فناء الدار سألتها عن أمين فابتسمت، وغمزت بعينيها مشيرة لي أنه في غرفته، طرقت الباب، فأتاني صوته من الداخل أن اذهبي الآن بعد قليل ٱتي لعندكم.
حملت حقيبتي، وعدت حانقة من تصرفه هذا، بعد ساعة أو أكثر حضر والخجل يعلو وجهه وما إن رأيته حتى أطلقت ضحكة هستيرية، ازداد خجله وانتفخت أوداجه من الغضب وقفل راجعا، تبعته لفوري. ووجدت زوجة عمي تطرق عليه الباب لتعرف ما به، نظرت إلي وسألتي ما به؟ عدت للضحك من جديد، وأنا أقول لها إنني لم أتمالك نفسي وضحكت عندما رأيت آثار الجروح على وجهه بعد حلاقة ذقنه. رمقتني امرأة عمي بنظرة اختفت بعدها حتى ابتسامتي، وقالت: ما كان لك أن تضحكي فهو يحلق ذقنه للمرة الأولى، ولهذا الأمر خصوصية عنده، وإلا لما أغلق الباب عليه لأكثر من ساعة، كان عليك أن تقولي له نعما وفقط. هززت رأسي بالموافقة وانسحبت إلى أمام بابه اطرقه بعنف حتى فتح لي الباب، ولولا خوفي من زوجة عمي لكنت انفجرت ضاحكة من جديد فغالبت ابتسامتي، وقلت له هكذا أجمل لولا هذه الجروح.. فظهر الحنق عليه من جديد وسألني: ماذا كنت تريدين؟ فقلت له أعاني من بعض الأسئلة يجب أن تساعدني في حلها، قال: نعم وبعد الواجب المدرسي ماذا عندك؟ قلت لا شيء، قال: ألا تحبي أن تذهبي إلى رنا؟ قلت: لا، لا أود الذهاب، صمت قليلاً وقال: أرجوك علا حبيبتي من أجلي أود أن أراها وأن توصلي لها هذه الورقة، فقلت له: حسنا سأقول لأمي بأني نسيت كتابي عندها، وبعدها نعود للدراسة.
وهكذا نشأت علاقة بين رفيقتي وابن عمي, وكنت لا أعرف كل التفاصيل، وعلاقتي بابن عمي أفضل مما كانت، إلى أن حدث مالم أكن أتوقعه، وكان هذا بعد مرور عامين على علاقتهما، فقد أعطاني ابن عمي دفتر ملاحظاتي عند الصباح، وقال: نسيتيه عندي، أخذته ووضعته في حقيبتي دون أن أتذكر أني نسيته ودون أن افتحه وفي اثناء الحصة الدراسية الأخيرة وعند انهماكنا بكتابة ما كتبته المدرسة على السبورة. وإذ بالمدرسة أمامي أنا ورنا، مدت يدها لتلتقط الدفتر من يد رنا قائلة: هاتي أرينا ما يشغلك عن كتابة ما كتبت على السبورة. أخذت الدفتر وعادت إلى موقعها وقرأته، ثم نظرت إلى الاسم المكتوب على الدفتر ورمقني بنظرة، ثم قالت: هو لك! هل اقرأ لزملائك المكتوب فيه؟ ليس عدلا يا علا أن تختصي رنا فقط.
لقد كان دفتر ملاحظاتي حيث اعتقدت المدرسة أن المكتوب فيه موجه لي، وأنا لا أدري عنه أي شيء ولم أكن أعلم أن ابن عمي كان يكتب رسائله ومواعيده على دفتري، ورنا كل يوم تبحث في دفتري وتنزع رسالتها من الدفتر.
صمت ولم أستطع التكهن بالمكتوب أو أن أقول أي شيء. طلبت مني المدرسة أن أنتقل إلى المقعد المحاذي فلملت نفسي وكتبي ودفاتري وانصعت لها وأنا ساهمة. كان غيث وحسان يجلسان بالمقعد الذي خلفي، لحظات وقال حسان أتحب الشعر الناعم أم الخشن، فضربه غيث على يده فشعرت بأن حسان كان يمسك، بضفيرتي وافلتها حين تلقى الضربة واختلطت أحاسيسي مع بعضها البعض وازداد توتري ولا أنكر أن مزاجي أرتفع رغم تعكره، لقد كانت المرة الأولى التي أشعر فيها بأنوثتي.
انتهى الدوام فلملمت اشيائي بعشوائية، خرجت من المدرسة وهرولت مسرعة باتجاه البيت متعثرة بكل شيء، سقطت محفظة أقلامي فانحنيت لألتقطها فتبعها كتبي ودفاتري، حاولت أن أجمع ما وقع مني، وإذ بغيث ينحني ليساعدني، فما كان من ابن عمي امين الذي وصل في لحظتها إلا أن صدمه بدراجته الهوائية وقفز من على الدراجة ولكمه قائلاً: أبتعد عن ابنة عمي أيها الأجرب، وقفت بين امين وغيث، كي لا تتطور المشكلة، وصرخت في وجه أمين وقلت: لماذا ضربته قال: لأنه قليل أدب ولا يراعي أعراض الناس، قلت له حقا! وماذا فعل؟ سأشكوك لعمي. انطلق أمين بدراجته وسبقني إلى البيت كي لا أصل لعمي قبله، اعتذرت من غيث فابتسم لي وقال: لا تهتمي فداك أنا.. تلعثمت وحرت بقوله، وتداخلت مع كلي، لكن مزاجي ارتفع مجددا. ذهبت إلى بيت عمي وإذ بعمي ينتظرني، ابتسم لي وقال: لا بأس يا علا لقد علمت من أمين الذي حدث واعدك بأن انتف له شعر لحيته عندما تنمو. اذهبي إلى البيت وارتاحي نزوركم في المساء ونتحدث، عدت إلى البيت غاضبة، قصصت على أمي الذي حدث معي ونمت. في المساء حضر عمي وزوجته وجلسا مع أبي وأمي فقط. وعند انتهاء السهرة كانوا مسرورين جميعهم إلا أمي كانت غاضبة جدا وجرى نقاش حاد بينها وبين ابي، سألها أبي على أي شيء تعترضين؟ على أمين؟ قالت أمي: أنا اعلمكم بأم أمين ابنتي لا تستطيع العيش معها، قال أبي: وأنا أعرفها لكن لا تنسي أنه الوحيد لأبيه من الذكور وميراثه ضخم وكذلك نحن. علا وأمين صغار ولا يعرفون مصلحتهم، يجب أن يبقى الميراث ضمن العائلة هذا رأيي ورأي أخي. اتفقنا وانتهى الأمر. قالت أمي: لا لم ينته شيء، وشروطهم مرفوضة ابنتي لن تترك المدرسة مهما كان ولن تتزوج إلا بعد تنال الشهادة، وتعمل بها، قطب أبي جبينه ورفع يده بمعنى كفي عن الثرثرة. وأغلق الموضوع عند هذا الحد. في الصباح سمعت ابي ينهي امي عن ايقاظي لكنها قالت: لي هيا ابنتي لا تتأخري عن مدرستك وإياك أن يشغلك شيء مهما كان عن دروسك. وبتنا بعد الذي حصل أنا وابن عمي غرباء، والقطيعة دامت بيننا لسنوات فلا نتكلم مع بعضنا إلا بالمناسبات العائلية. وبعد الثانوية دخلت الجامعة، أما أمين فقد كان على أبواب التخرج وأنا وهو شبه خطيبين أنا أخجل من هذا، وهو يخاف من هذا الوضع فكيف لو علمت سها ونها ورهف و.. و… أنه سيتزوج ابنة عمه؟ فسيختلف عليه الأمر كثيرا، ثم ان علاقته بهيفاء كانت عميقة ولا اعتقد أنها مثل علاقاته السابقة.
***
كنت في سنتي الأولى بالجامعة متحفظة مراقبة مترددة وجلة، فأدخل إلى الجامعة وقاعة المحاضرات وأخرج منهما بفارق الذي دونته على الدفتر وأيضا بفارق المعلومات التي أكتسبها وارى سهولة العلاقات زميل وزميلة، رفيق ورفيقة، صديق وصديقة، صاحب وصاحبة، حبيب وحبيبة، أما أنا فلم امتلك أي نوع من العلاقات، لقد كانت الحواجز النفسية منيعة جدا فقد أغلقت ابواب القلب والنفس وحتى الرغبة بالحياة لأن أمامي أمران يجب أن ينجزا أولا وبعدها أشرع بفتح أبوابي. الأول وهو أنني يجب أن أنهي دراستي الجامعية دون أي انحراف عن الخط المرسوم من قبل السيدة الوالدة كي لا تتدخل العائلة الكريمة بدراستي مرة أخرى. والثاني ولأنه الأهم يجب أن أفرغ من كل شيء لأتفرغ له وهو موضوع زواجي من ابن عمي لكن هذا التحفظ لم يدم طويلا فعجلة الحياة تدور وندور معها.