اللوحة: الفنان العراقي منعم الحيالي
سليم الشيخلي

تطلع إلى وجهها المنكمش بابتسامة ساخرة لم يستطع فك رموزها فتركها كما هي وتساءل بخبث رسم عليه نفس الابتسامة دون اكتراث:
– متى تعودين؟
– بعد أسبوعين.
ولعنت في سرها كل الذين أدخلوها غابة الدخان قسراً فاضطرت إلى الكذب بالمجان.
– اجلبي لي معك بلوزة زرقاء وسط.
– من عيني.
قالتها دون أن تغادر الشباك. عندما اصطدمت عيناه مجدداً بها.
– ما الأمر؟ قالها وكأنه يعرفها زمناً بعيداً.
– أحتاج إلى مساعدتك.
– كيف؟
– أحمل ساعتين وثلاثة كروزات سجائر قد يأخذونها مني.
– بكل امتنان.
طلب منها جواز السفر فأحست خيفة لكنها ناولته إياه، تظاهر أنه يكتب اسمها على ورقة دسها في جيبه ثم أعاد إليها الجواز، وبمكر صبياني قال بعد أن تركها وحدها تجمع مسحوق الصمت الذي انتشر بينهما لفترة:
– ما رأيك أن تهديني ساعة فأنا لا أملك واحدة. وخبأ يده اليسرى تحت الطاولة. عندما أحس من هزة رأسها بالموافقة قال:
– انتظريني عند الباب، سأذهب معك للجمرك يا خالتي.
– الله يحفظك يا ولدي .
ساعة واحدة لا يهم، سأضحي بها، لن تنقلب الدنيا أكثر مما هي عليه، سيبقى لدي خمس ساعات سيتزن المرغوبة في عمان وستة كروزات سجائر، سأحصل على ثروة تساعدني في تدبير أموري لوقت أكون قد خبرت عمان أكثر.
جاء الموظف، مد يده، صافحته، ضحك وهو يهزها.
– الساعة!
أخرجت لفافة من صدرها، دستها بين أصابعه الأربعة بصمت وهي تنظر إلى معصمه المسور بساعة.
– الله يخليك لأهلك.
تنظر إليه برضا عبقت رائحته في قاعة التفتيش. إحساس بالزهو يملأ صدرها وبانتصار على أعداء قريبين وآخرين بعيدين اضطروها إلى الرحيل. انفردت جانباً تشد إزارها حول خصرها وتضع بين جسدها المتعب وملابسها العتيقة ما هربته من مواد منتظرةً تفتيش آخر راكب في الحافلة.
أم حسين هذه أم من بلاد الرافدين بملامحها السومرية بلون الأنهار الحبلى بالغرين والعطاء، في فتح الخمسينات من العمر بكل تراجيدياه الساخرة، وشم على الحنك وعلى ظاهر اليد، بشرة بلون الحنطة قبل الحصاد ولولا ما هربته من مواد حول جسدها لبدت تلك النحافة العراقية. حزن عميق كأصوات نايات الجنوب يعتلي نظرتها لتبدو مثل زهرة ذبلت منذ لحظات وما زال بقية من عطر نشيدها يتلوى عند حافات الشفاه.
تحركت السيارة نحو الحدود الأردنية، اجتازت منطقة التفتيش بسلام، أنهت تأشير جوازها وبدأت الحافلة التي غادرت بغداد ظهيرة أمس تشق رحم صحراء جديدة تبدل فيها طعم الهواء، لون الأرض، حميمية الانتماء وعبق المساء.
“الحمد الله“، قالتها مع مخاض زفير مخبأ في الداخل شق طريقه إلى الأعلى ليعيد اليها توازناً افتقدته كثيراً ورمت برأسها وسط الزاوية المحصورة بين زجاج الشباك البارد وكرسيها.
إيه عمان أيتها المدينة الأحجية الجديدة في مفرداتي، أتراك مثل الكرادة أم “الطوبجي”، والناس!! مسلمون مثلنا ويتحدثون العربية أم إنك لغز جديد لا أعرفه قد تصدمني مفاجأته! وأنت يا أم حسين أيتها القطة التي تضيع خارج حيها وتعرف القليل عن مدينتها المدورة أو كما يسمونها دار السلام ماذا ستفعلين! الأيام تأخذك حافلة قديمة سترميك عند شوارع عمان لتبدأ المغامرة الغامضة في مدينة التساءلات .
ليل حالك يمتد سواده من الأفق وبارد حتى عظام الرقبة. نقاط ضوء مبعثرة هنا وهناك نقترب من إحداها، تتوقف السيارة ليصعد جندي بالكوفية الحمراء، صارم الوجه، مليء بالنعاس ليتأكد من أَننا دخلنا البلاد بطريقة مشروعة، نظر إلي بطرف عينيه..
– زهرة جواد؟
– نعم.
أعطاني جواز سفري بأطراف أصابعه الزرقاء دون أن يكلف نفسه النظر اليّ. نسير من جديد، يلفنا الليل والصحراء وأزيز الحافلة، يبزغ القمر من خلال كوات لم تملأها سحب الشتاء المتراصة ثم يختفي، طفل جميل ألاحقه بنظراتي فيتدلل بالاختباء فيالمجهول، أعود مسرعة أتلمس الكرسي لأحس أنني مازلت على الأرض ولي قدر جديد مع الحياة سألقاه ظهيرة الغد وحدي.