المسلخ العمومي – 3

المسلخ العمومي – 3

اللوحة: من أعمال الكاتب

لطفي شفيق سعيد

قصة من خيال الواقع من ثلاثة فصول

الفصل الثالث

أرتشف غركان ما تبقى في القدح من ماء وأخذ نفسا عميقا وبدأ يسرد على جبر ما حصل له وللآخرين في المسلخ العمومي قائلا: بعد أن تم سلخ جلود جميع من دخل القبو انطلق الصوت الأجش يصدرا أمرا جديدا مفاده:على الذين سلخت جلودهم التوجه إلى أحواض تطهير الذنوب!

اقتيد كل واحد منا من قبل قوة الصوت الأجش المدججين بالسلاح إلى أمكنة تلك الأحواض وما أن وصلنا إلى هناك حتى شاهدنا رقعة كتب عليها عبارة (أدخلوها بسلام آمنين)!

لقد كانت تنبعث من تلك الأحواض رائحة نفاذة تزكم الأنوف وتبعث على الغثيان مما جعلت كل فرد منا لا يشعر ما يدور حوله وكل ما شعرنا فيه في تلك اللحظة هو ملامسة الماء النفاذ لحوم أجسادنا التي سلخت الجلود عنها!

تصور يا أخي جبر حالتنا تلك عندما أخرجنا من تلك الأحواض ,حيث  لم يتمكن حينها أحدنا من معرفة الآخر فقد كانت وجوهنا مسلوخة وخالية من كل أثر للتشخيص وعندها ضاع علينا الإحساس بالعالم والوجود وسيطرت علينا حالة من الذهول ولا ندرك  من نحن ومن نكون؟

أصابت جبر حالة من الرهبة والخوف وكعادته تماسك وطلب من غركان أن يستمر بوصفه لما جرى.

أستمر غركان بسرد وقائع ذلك الحدث الرهيب قائلا:

لقد تم نقل جلودنا التي سبق أن علقت على الحائط بخطافات حديدية إلى مكان أطلق عليه تسمية (المدبغة) وتدار من قبل مجموعة مختصة بدباغة الجلود وبمواد خاصة تجعل تلك الجلود تتحمل الصدمات والتغيرات المناخية كالعواصف الترابية وارتفاع درجات حرارة الجو كالجلود التي تستخدم لصناعة الأحذية والحقائب بأنواعها.

وبعد أن تمت عملية دباغة الجلود جرى توزيعها علينا والغريب في الأمر أن توزيعها قد جرى عشوائيا ودون تمييز بين جلد طويل وآخر قصير أوبين أسمر وأبيض!

إنني سأسرد لك خبرا آخر مهما مفاده أن المجموعة المشرفة على المسلخ العمومي قد أقامت لها فروعا عديدة في كل أنحاء البلاد يشرف على كل فرع منها شخص مسؤول يحمل عنوان (مسلخ فرع).

وتم نصب ماكنة سلخ في كل فرع من تلك الفروع الغرض منها شمول أكبر عدد من الناس يتم بسلخ جلودهم.

لقد تسنى لجماعة الصوت الأجش وأعضاء الفروع انجاز مهمتهم حسب التعليمات الصادرة لهم من جهات الدنيا الأربعة وإن مهمتهم تلك نفذت لقاء مبالغ طائلة تم الاستحواذ عليها وسرقتها من بيت مال الشعب وفرت لهم عيشا رغيدا ومرفها ويسكنون في قصور مشيدة محاطة بأسوار عالية ومحمية بحراسات مشددة لا يمكن اختراقها وخاصة ممن سلخت جلودهم!!

لقد خطر ببال جبر سؤال طرحه على جليسه غركان مفاده:

كيف استمرت حال حياتكم بعد هذا التغيير الذي جرى على كياناتكم واختفاء معالم وجوهكم التي أصحبت جميعها متشابهة ولا يمكن التمييز بين الواحد والآخر وأصعب ما فيها هي الأسماء لآن تلك الحالة تلغي الأسماء أيضا فكيف يستدل على من أسمه أحمد أو علي أوعثمان أو محيبس أو آزاد؟

نعم يا أخي جبر إن هذا التغيير قد عقد حياتنا وخلق لنا مشاكل عديدة لا يمكن حلها بسهولة وكما قيل في الأمثال (وهل يصلح العطار ما أفسده الدهر؟)

أضاف غركان: وهو يطلق حسرة مصحوبة بألم:

إن أخطر ما انتجه هذا التغيير هو انشار حالات القتل والخطف والسرقة وانتحال الشخصيات وارتفاع معدلات الخلافات الزوجية بسبب عدم معرفة الزوجة لزوجها أو الأبناء لآبيهم حتى الممتلكات والعقارات فقد تم الاستيلاء عليها من قبل غير أصحابها وعند المطالبة فيها من شخص سلخ جلده لا يمكنه تقديم أي أثبات لآن هويته الشخصية وصورته المثبتة فيها لا تشيران إلى شخصه وحالته الجديدة تلك.

أضاف غركان قائلا: عليك أن تكتشف يا صديقي أمورا أخرى أفرزتها حالة التغيير الرهيب لآن كل الحالات والحوادث التي وقعت تم تسجيلها ضد مجهول أو على طرف ثالث خفي!!

ترك جبر العايش العنان لمخيلته أن تسرح وعاد بذاكرته إلى ذلك اليوم المشؤوم الذي دخل فيه المسلخ العمومي مخدوعا مثل الآخرين وتمكنه من أن ينفذ بجلده لكنه أضاف:

ما الفائدة من خلاصي وخلاص الآخرين ممن لم تصيبهم تلك المصيبة بعد أن تحول البلد إلى مسرح للفوضى وعدم الاستقرار حتى أخذ كل فرد فيه يأكل لحم وعظم وجلد أخيه دون حسيب أو رقيب!!


المسلخ العمومي – 1

المسلخ العمومي – 2

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.