يوم رحل كل فرح معلق على الجدران

يوم رحل كل فرح معلق على الجدران

اللوحة: الفنان الروسي بوريس كوستودييف

سليم الشيخلي

لم أك أعرف الزواج أو أبا حسين عندما تقدم لخطبتي فقد كنت صغيرة بعالمي وأشيائه،  لعبة القماش، المدرسة، أصدقاء الزقاق، الزلزال الذي حدث لجسدي وحدثتني عنه أمي عرفته لاحقا وعرفت اني دخلت الى عالم المرأة المعطاء ليختفي الخوف المفاجئ ويصبح عادياً بمرور الأيام

– الزواج ستر وبناء حياة جديدة خاصة للفتاة، يعني أن يكون لها زوج وبيت وأطفال يأتون، يملاؤن حياتها ومنهم تستمد نسغاً بطعم يختلف عن كل شيء، تزوجنا ونحن صغيرات. أمين من عائلة بسيطة مثلنا وسيرته طيبة، الناس تحلف بحياته لطيبه ورجاحة عقلة والأهم أنه يعمل في مصنع وقد وافق أبوك عليه.

قبلته لأنها نهاية وبداية لكل فتاة وقبول أبي به يعني أن كل شيء قد انتهى ووجب علّي أن لا أخرج وألعب مع أقراني. ودعت حياتي القديمة بسرعة لأجد نفسي في غرفة صغيرة وأثاث بسيط ملك لي داخل مسكن مزدحم بالكتل البشرية. لم تكن عائلته وفروعها كبيرة لكن للنساء فيها قدرة هائلة على الإنجاب.

في ليلة الدخلة كنت أعيش الرعب والخوف من المجهول، سوراني ليفقداني القدرة على الكلام والحركة لأصبح دمية بالألوان يربتون كتفها، يقرصونها وابتساماتهم فوانيس لمعاني متعددة، تسخر مني فأغور مستنقع لزج. زادت الحركة في المساء، الزغاريد والأغاني تعلن وصول العريس، ازداد هلعي لتنهار من تحتي الأرض خاصة بعد إطلاق رشقات نارية. صخب الكون يتجمع عند باب الغرفة وما تبقى من نقاوتي ويد أمي يخففان من هذه اللحظة. مسحت أمي حبات العرق من على جسدي كله وانحنت تقبل خدي موشوشة إنها الليلة التي تتمناها أي فتاة.

– كوني شجاعة، استسلمي لزوجك ستذوقين العسل. أمين رجل نادر، كلي ثقة إنه سيعاملك بطريقة خاصة.

طرق على الباب، تفتحها إحدى الفتيات ليدخل أمين بقامته المعتدلة بجمال عريس. تحرك الجميع معلنا الخروج فأفرد يديه نسرا يطلب التأني.

– اجلسوا قليلا أريد أن اراكم، عمتي عاشت ايديك على ها البنت.

تحدث مع الجميع وأتحفهم ببعض النوادر دون أن ينسى إرسال ابتسامات زنبقية،غمز لأمي فقامت وطلبت من الجميع الخروج، ليهتز كلي، سعفة لم تغادرها الطفولة بعد وحيدة تمرجحها عاصفة. دنا مبتسما ومد يده كتفي هامسا بكلمات لم افقها لكني أحسها نوافذ نحو النور ومصدات للعاصفة لتصبح مع الأيام تمايل روض زهور تمر به نسمة، كيف جعل لتلك الليلة ذاك الطعم الخاص صباحا ملونا راقصا يليق بها، ولكل ليلة مذاقها الخاص… تلك من أسرار أبو أمين. كان يعمل فنياً في معـمل الوصيللنسـيج، يخفي تعبه عندما يجيء مساء، يحـدثنا بعد العشاء عن أشياء كثيرة تموج بها المدينة تضاداً من أجل الحياة، حلـف بغداد، نوري السعيد، رفاق، سجون. كنت أتظاهر بأنني أفهم ما يقوله وأسأله بعض الأحيان عن كلمات لا أستوعب معناها فيالوهلة الأولى، فالصهيونية والاستعمار ثقيلة على السمع ولاحقاً عرفت أنها ثقيلة على القلب أيضاً. كان يجلب كتبا سياسية وأدبية ويرغمني على مطالعتها، يشرح لي بعض الأشياء الغامضة، يناقشني ويدرب عقلي الصغير لأشياء أحسها أكبر من عمل البيت فأحببتها وبدأت أحس تأثيرها على كياني كله. يحفز كل معلوماتي التي اكتسبتها من المدرسة ويزيدها من كتب يحتفظ بها فيصندوق خشبي.

أصبح لي كل شيء فلماذا لا أعلن حبي عليه وأحسسه أنني معه وأحبه بكل جوارحي وبه أفتح شبابيكي للصباح. أليس هو خيمتي، أجنحته ترحل بي إلى كل مكان. ألم يجعل من علبة السردين واحة خضراء ثم وردية وبيضاء. ألم يمنحني حبه ثلاثة أطفال، حسين، سعد وهدى، أحببته وكأنه الرجل الوحيد في هذا العالم وأحبني بشكل شغل روحي وغطى مسامات جسدي بإنسانيته ورجولته، غمرني بربيع برعم الأنثى داخلي فحولها إلى زهو لا ينتهي. كنا نصنع شمسنا بعطرها، مطرنا بألق أقواس القزح،ألواننا بزهورها ونداها ونترك الباب مفتوحاً لكل نسمة ضلت طريقها. فتحملت معه جزءاً من همه الوطني والعملي. يخرج من الصباح شمساً ويعود المغرب بدرا، تحملت كل ما يخص أمور البيت وتمتعت بها. علمني أن الحياة مسرح كبير وعلى الممثل أنيكتب النص الذي يمده عناداً إلى الأمل وعندما يكون الأمل مشتركاً سنقترب من المدينة الفاضلة. ترفعنا قليلاً على العوز والمعاناة بالحب والمعرفة والوجبة البسيطة التي تكفي واحدة منها بعض الأحيان اليوم كله، كانت الأيام صديقاً رغم الجوع والحاجة والتعب الجسدي المستمر.

 الشارع يغلي، لم يكن بعيداً عنه، يخبرني وهو يضحك عن عدد الهراوات التي سقطت على ظهره في مظاهرة اليوم، عنيوسف صديقه الذي تمزق قميصه وبقيت بعض ازراره في قبضة الشرطي وعن شعاراتها “نريد الخبز، نريد العدل“. استعانت الحكومة بالجيش ليحتل بغداد، الدبابات تحاصر الأماكن المهمة، الوزارات ودار الإذاعة، الأهالي يزودون العسكر الذينيحاصرونهم بالماء البارد والخبز وما شابه بمنتهى الألفة لكن الصراع لم ينته فالمياه العميقة تجري بسرعة رغم مظهر الهدوء على سطحها. يزوره يوسف أمسيات متباعدة مع بعض من وجوه غريبة يسهرون، يتناقشون في مسائل مختلفة، تزوير انتخابات مجلس النواب، ارتفاع أسعار المواد الضرورية مروراً بالشعر والغناء فاستمتعت كثيراً بالأحاديث الرطبة التي ساعدتني في التعبير عن أشيائي بسهولة وأغرتني بالوقوف أمام المرآة لأضيف لمسات ملونة لتلك التي تقف أمامي. كان حبه ينبوعاً يغسل اللحظات بالصدق والعفوية، سعادة لم أذق لها مثيلاً لتصبح زوادة أتغنى بها كلما ابتعد عني.

 لم يكن المخاض سهلاً عندما سمع الناس صبيحة الرابع عشر من تموز البيان الأول للثورة “بعد الاتكال على الله وبمؤازرة المخلصين من أبناء هذا البلد قام جيشكم الباسل…” فالحمل ثقيل وعندما تتلاوى الأيادي لابد أن تسقط واحدة وتفلسف الهزيمة. أصبح وجهه كالقمر الفضي رغم السمرة، فراشة لا تقف عند زهرة واحدة. طرق باب جارنا سعيد وقبل أن يسلم عليه.. أحتضنه. بدأ الجيران بالتجمع واطلاق الأهازيج والزغاريد، الأيادي تتشابك مهنئة، إنه عيدك الأول أيتها المدينة المناضلة. ازدانت بغداد بعبق بابلي، كبرياء السجين الذي كسر زنزانته، يتألق في مشيته بشوارع اشتاقت لوقع أقدامه فجاء يرسم من جديد قصص المستقبل الجديد. أخبرنا ان الخير قادم وان استغلال الاستعمار وأعوانه للوطن انتهى من دون رجعة وستبدأ الجماهير بقيادة نفسها. بدأ يوسف يزوره بانتظام أول الأمر لينتهي بانقطاع أثار تساؤلي.

–  يميني، لا يؤمن بالقيادة الجديدة. يريدون تسليم أمور العراق لعبد الناصر.

– لكنكم في خندق واحد.

– طريق الثورة مليء بالصخور ولن تكون ثورة إن لم تتجاوزها بمزيد من الفهم والديمقراطية والحوار. كان النضال ضد الاستعمار يجمعنا في خندق واحد. أتمنى أن نظل هكذا لبناء عراق جديد وإلا سنكون أسوأ مما كنا عليه.

 البيت الصغير يمتلئ بقادمين جدد يحملون صراخهم ولعبهم. تموز يقدم هداياه للفقراء، الإصلاح الزراعي، الإسكان المجاني،التأميم، الخروج من حلف بغداد ودائرة النقد الأجنبية وانجازات عديدة استفزت آخرين. الأيام تمضي، تكبر فينا الدنيا بالعافية والنور ويصغر البيت فسألته.

– متى يكون لنا سكننا الخاص.

– قريباً إن شاء الله. ستوزع الدولة دوراً للعمال وسيكون لنا بيت ومثله لمئات العوائل المحشورة في علب السردين. 

وحدث ذلك، حصلنا على دار بعد سنتين كانت أكبر من جنائن الدنيا كلها، غرفتان ومنافعهما، باحة ونخلة نقلها أمين من بيت أبيه قبل أن ندخله، أطلق عليها اسم عشتار، الآلهة السومرية. استقبلتنا بعباءاتها الخضراء، أطلقت من طلعها رحيقاً عبق به البيت، رفعت رأسها بشموخ ورثته من أول نخلة قامت على قدميها لتفرد ظلالها على أرض السواد وفرشت صدرها عشاًللعصافير.

انتقلنا إليه بعيداً عن أهله مما خلق مودة واحتراماً بيننا بعد سلسلة طويلة من مشاحنات فارغة خلقتها الحاجة إلى الخبز ومايتساقط من بين أصابع الفقر من جوع يقرص اللسان. أي لذة برائحة المشمش، فرح بلون البحر ينتابني وأنا أتربس باب جنتيالصغيرة. طفلان يلعبان حول عشتار وبطني ممتدة إلى الأمام ملبية نشيد العطاء لطفلة ستجيء ذات صباح جميل لتكمل زينة حياتنا المملوءة بحلاوة البساطة والأمل في حياة آمنة. كان يرسل اليها قبلاً يضعها أمانة على شفتي فأتنطع لحلاوتها وأرسلها بشوق أكبر.

في مساء خريفي مازالت بقايا الصيف تعانقه طرق الباب فإذا به يوسف، خرج إليه أمين بلهفة وتعانقا، أصر على الجلوس قرب عشتار، قدمت لهما العشاء، أكلا، أحضرت الشاي، وضعته بينهما ثم استدرت لأتركهما في شوؤنهما الخاصة،شد انتباهيسؤال يوسف:

–  هل عرفت ما حدث في الموصل؟

– ليتني ماعرفت. ولكني كنت أعرف أن هناك مهرجاناً لأنصار السلم والديمقراطية.

– وهذا قصر النظر بعينه، مهرجان لليسار في عقر دار أهل اليمين كما تسمونهم، استفزاز حملكم إلى القتل والسحل وتدمير المدينة.

–  ستكون بداية النهاية للأحلام المشروعة في أن نعيش أحراراً وبسلام

– لكنه حدث، الدماء معلقة على أعمدة النور.

– أكمل المعلومة لتبدو الصورة كاملة

– أي صورة؟

– الأسلحة العربية التي استقبلتهم بحقدها بدل الورود وتشابك القلوب من أجل الوطن.

اين المضيف الذي كنا نستقبل به الضيوف؟

– ضيف يحمل السكينة؟ يبدو اننا لم نصل سن الرشد بعد.

وجاء الطوفان وما يحاك في الظلمة لوأد إنجازات مازالت طرية يعيشها البلد، عاشت الموصل أيام رعب مدمرة، العنف والعنف المضاد، المضاد ورد فعله، مجزرة في كركوك، البصرة، اغتيالات في المدن الكبيرة وضح النهار، محاولة اغتيال رئيس الجمهورية، إعدام كوكبة من الضباط الذين صنعوا ثورة الرابع عشر من تموز، الثورة تأكل أبناءها دون شفقة. اليمين واليسار فيآتون واحد والزعيم الأوحد يلعب على حبالهما، يتقوى بطرف ضد الاخر ليصبح أخيراً حطباً للنار التى لم تخمد بعد.

 قصيرة مثل عمر الياسمين كان عمر أول ثورة في تاريخ العراق تقتطفه طلقات طائشة، قصف طائرات وأزيز مدافع تملأ سماء بغداد. الثورة تلد ثورة أخرى بعملية قيصرية، يوضع الزعيم الأوحد بكل أناقة زيه العسكري داخل كيس ليحتضنه دجلة بوقار صامت.. البيان الأول، بعد الاتكال على الله قام حزبكم العظيم في دك.. أوكار الطاغية.. و لم يكن في حسابه المصرفي إلا دينار وربع. البيان الثالث عشر إعدام أعداء الوطن والقومية العربية. المدينة الجميلة مسرح لعرس الدم والتدمير، ومن لديه حقد أو كره فليفجره فقد آن أوانه فجذور الجهل والطغيان الممتدة داخلنا مازالت عميقة لم تقدر الثورة بسنواتها القليلة على اقتلاعها وبذر زهور جديدة. اشتبك أنصار القادمين الجدد والمدافعين عن مكاسب دخلت حياتهم فأصبحت جزءاً من حياتهم اليومية. اختفى أبو حسين أمس ثم عاد اليوم يحمله رجال لا أعرفهم والدماء الجافة تملأ وجهه وملابسه.

–  كان يدافع عن الثورة فقتله أعداء الثورة بالكلمة وحاوروه بالطلقة

وضعوه تحت عشتار، قرأوا الفاتحة، قدموا التعازي وخرجوا بوجوه شاحبة. رحل قربان مبادئ حدثنا عنها كثيراً وتركنا لمفارز الحرس القومي يلهون بنا وكأننا نحن فقراء أرض السواد والنفط المملوئين بالحب والحياة والأساطير أخطر من إسرائيل والاستعمار. رحل وأخذ معه كل فرح معلق على الجدران، ثياب النوم وبين طيات هديل حمائم عشتار. سواد يتغشى كل شيء، كسر الخبز، أحرف الكلمات وكل جادة كانت مضاءة على جسدي. لم أكن أتصور أنني سأموت هكذا على قدمين ما زالتا تتحركان بقدر من التماس مع قدر جديد. مات حبيبي كنت أقولها كل لحظة لنفسي لأتأكد.. أتالف مع مصيدة حاكتها الأيام لأعلقها هياكل متهدمة في ذاكرتي. بكيت كثيراً لفراقه، بللت دموعي خارطة الوطن المذبوح بأيدي أبنائه. أصر يوسف أن يقام له مأتم في خيمة كبيرة ووقف يستقبل المعزين مع قلة من أقارب أمين الذين عبروا حاجز الخوف.في اليوم الثالث جاء يعزيني به ورأسه تبحث عن كلمات في الأرض مازالت دون صدى.

– هل يستحق ما حدث له؟

– كنت أتمنى أن أكون بدلاً منه، لقد دفع ضريبة ما تنبّأ به..

مد يده بظرف داخله نقود فرفضت أن أمد يدي وأنا أقول:

– لو يستلمها أمين لأخذتها منك. أهذا ثمنه؟

– أرجوك أم حسين، تعرفين كم هو عزيز وقريب إلى قلبي رغم اختلافنا الأيديولوجي، لن أنسى تأثيره علي وعلى نظرتي لكل شيء. أتمنى أن لا تتواني في الاتصال بي في أي ظرف يستجد، أسأل الله أن يعينك.

بدأت عيناه تلمع من دمعة عصية فجرجر قدميه مغادراً وهو يتمتم..الله يرحمه. استسلمت أخيراً لقدر مفاجئ، أقسى من أن أتحمله، بدل شكل حياتي، ثلاثة أطفال صغيرتهم ما زالت معلقة على صدري ومستقبل غامض، أشياء عديدة كان حبيبي يؤديها دون أن أحسها فاضطررت لمتابعتها وإنجازها مع دوائرالدولة المنتشره في أماكن عديدة، حاجيات المنزل فأصبحت الواجهة لأنسى ولزمن طويل أنني امرأة وما تحتاجه من أشياء لترسم جسدها فوق عشب الأرض.

ساعدني والده بما تيسر له بعض الوقت رغم شظف العيش ووطأة سنابك الأيام الثقيلة. قالت أمي وهي تدس مبلغاً من المال بين يدي

– اتكلي على الله، وسبحانه لن يخذلك أبداً.


ساعتان وسجائر

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.