لا أحد

لا أحد

اللوحة: الفنان الكردي لقمان أحمد

محمد محمود غدية

جلس جواري في القطار كهل أبيض الشعر نحيل القامة، تجري في صفحة وجهه بعض حيوية، ارتسمت بشفتيه ابتسامة مقتضبة، أخرج من حقيبته الجلدية الصغيرة أجندة وقلم، كتب سطرا التقطته عيناي فضولا، يمكنني الاعتذار عنه، لا أنكر هنا أن السطر الذي قرأته، هدهد روحي الموشكة على مغادرة جسدي.

 كتب فيه: حتى الحشرة التي لا تستمر حياتها أكثر من ست ساعات، تبتهج بالشمس، الله، قلتها في نفسي، 

استأذنته في إزاحة ستارة النافذة، لأول مرة أستشعر النسيم الرائع، وحفيف الغصون الذي يبعث هسيسا هامسا. الأرض تضحك وشذا الربيع يفوح مسكرا، أفتح أزرار قميصي، وأعبئ صدري بالهواء النقي المنتشر في الأجواء، قبل أن ألتقي والكهل، كنت مثل عصفور عريان دون جناح، يتخبط وحده في وجه الإعصار، بارد النظرة، بطيء الحركة، حتى القطار الذي ركبته، لا أعرف وجهته، كأنني ناهض من نوم، أو ماض إلى نوم، غير منتبه إلى ما حولي، هل يمكن للإنسان أن تحييه كلمة وتميته كلمة؟

 لابد من الاعتذار للكهل عن تطفلي وأشكره على كلماته التي نبهتني إلى ضرورة الاستمتاع بالحياة، لست أقل من الحشرات والحيوانات التي تبتهج بالشمس، وبالحياة التي لكمتني لكمة قوية، نهضت بعدها مترنحا، وانهارت إرادتي الصلبة، لاعبي الملاكمة والمصارعة، يتلقون اللكمات والهزائم المؤقتة، مستخلصين الرغبة في النجاح، والتفوق من حومة المأساة والهزيمة، لابد من إزاحة كل الستائر، التي تحجب الشمس، لا معنى للحياة حين نفقد إدراكنا للناس وللأيام وللإحساس، الحيوان يمضي ويبتهج، لا تسقطه الأخطاء، استأذنت العجوز في مشاركتي القهوة، هو على المعاش يهوى القراءة والشعر، وهو في طريقه الآن إلى سور الأزبكية، ليبتاع بعض الكتب، نبهني دون أن يدري أن القطار في طريقه إلى القاهرة، وأنا الذى كنت أجهل وجهته، حدثته عن مأساتي وصديقي الذي خان والحب الذى ذهب، قال من بين ابتسامته الواسعة: الزواج في مجمله، هو النوم مع العدو، لا تتودد لأحد، ولا يعنيك أحد، هناك أنت ثم لا أحد، التفت في الجوار فلم أجد أحد.

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.