اللوحة: الفنان العراقي ناصر حجي كسو
سليم الشيخلي

ليل الفقراء الأطول بآهتين ودمعة دفعني أن أبيع من أثاث المنزل،جلست أفكر ما البديل؟ رحل رجلنا. ما العمل؟ المهمة أصبحت صعبة جداً يا زهرة بنت جواد، لم يعد النور يقفز حول عشتار وداخل البيت فيرسم على أحلامنا البريئة شيئاً نرتوي منه لنكون كما كنا أو نعيد صوراً ذهبت إلى الماضي. أتى الربيع وما زالت الشوارع تلعق بقايا جراحاتها ودماء ضحاياها الفقراء، أتى يلقيإشراقه على الأشجار فيبرعمها جذلاً، على الطيور لتعزف ألحانها الخالدة. اشتريت حلوى وسجائر وجلست عند ناصية الشارع،عموداً باهتاً في لوحة بائسة أبيع للمارين من كل الاتجاهات. كانت تجربة فاشلة. كنت أوزع قطعاً من الحلوى مجاناً على أطفال حفاة يقفون أمامي ناظرين بتلصص. مكثت فترة في البيت إلى أن عرضت علي جارتي سعدية أن نبيع الخضار في منطقة الزوية في الكراده،لم أتردد رغم أمواج الخوف العاتية التي سرت داخلي، الأشياء حولي تدفعني دون تفكير أن أصنع الخبز. افترشت الأرض في الكرادة، عالم مضيء بالصحة والعافية، الضوء واللون، الوجوه الشابة والمرح. إنهم لا يسيرون على الأرض وهميتجولون ويتسوقون بل أرفع عنها بقليل، اختلفت عليّ اللهجة التي يتنطعون بها، شارع فسيح، بنايات عالية، شبابيك يدخل إليها النور، صبايا كفراشات الأغاني المرحة وفي النفايات أطعمة تكفي عائلات عديدة من جيراننا الموتى الأحياء.
كان العمل متعباً، نستيقظ مع أذان الفجر، نذهب إلى علوة الخضار، نشتري ما يحتاجه السوق من أوراق الكرفس والنعناع وما شابه ثم نجيء به على ظهر (بك آب)، نعرض بضاعتنا. في فترة وجيزة. لاكني السوق ولكته لأصبح جزءاً منه متمسكة في شعار اللاءات الثلاثة، لا أسمع، لا أرى، لا أتكلم. عيون عطف كثيرة تسأل عن أم اليتامى وتساعدها، الجزار بقطع من العظام السمينة التي يتركها المترفون وما أكثرهم هنا، بائعو الفواكه بما يتبقى لديهم من الصنف الذي لا يمكن بيعه غداً، متسوقون يتركون(الفكة) المتبقية، ما زال هناك أناس طيبون في بلادي كربيعها. الربح هنا ولله الحمد يلبي احتياجاتنا الضرورية ويزيد بعض الأحيان لتلبية مسائل أخرى. وذكرى أبي حسين قلعة عالية تختبئ داخلها رغبة امرأة لا تعرف اليأس رغم الإشارات والدعوات الصريحة للخطيئة في نظرات جائعة، كان الحزن والكلمات الصادقة تبعدهم باحترام أحسه في اللقاءات اللاحقة، في نظرة اعتذار أبلغ من الكلمات.
الأطفال يكبرون، يلبسون، يلعبون وتكبر معهم حاجيات جديدة وفي خضم جعجعة جديدة في فنجان كبير تنفجر في دار السلام ثورة جديدة تأكل أصدقاء الأمس، القطة تأكل صغارها. يهرب الحرس القومي عند أول بيان من مقارهم بالملابس الداخلية خوف التعرف عليهم ومحاسبتهم الجرائم التي ارتكبوها بحق أبناء جلدتهم لاختلاف فكري أو عداوات عتيقة. الناس بين مصفق وشامت ومتفرج إلى ميلودراما المراهقة السياسية في بلاد ما بين النهرين والليل طويل والصحراء تدفعنا إلى عمان التي ما زالت بعيدة وهدير الحافلة يتجمع كالذباب حول أذني فيزكم الذاكرة بوشوشة تحرجها فتجيء صور دون ألوان أو حياة بعض الأحيان، عبد الإله معلق في حبل يتدلى من شرفة أحد الفنادق في ميدان عام، عطش الحسين بن علي وبينه والنهر رماح جائعة، فقراء يقومون على آمالهم في فجر من نور فتكبلهم صدفة ثورية، عطش نقطة ماء وسط أمواج دجلة تغني ضمأها.
تسقط طائرة مروحية جنوب العراق فيلبس الحداد. الخطأ الأعمى أم العمد في حرق رئيس الجمهورية بعيداً عن الأرض ليطفو الوطن فوق بحيرة راكدة يطبب الناس جراحهم وهم يبحثون عن مكان تحت أي شيء له مواصفات سقف. الأرض تدور والأيام الجديدة تفسح لي مكاناً فيه ظل يكفي لعائلة. الثورة تلد ثورة أخرى. تلبس نفس الوجوه التي اغتالت زوجي جلد حرباء، تحمل جزراً وترسم ابتسامة ماكرة تخبئ تحتها عصا غليظة. المدينة لم تفقد عنادها وذاكرتها لكنها لم تكن يقظة لما يدور تحت الأرض،اختلط التأميم وقيام جبهة وطنية تضم جميع الأحزاب بغلق أبواب الجامعات أمام الطلبة إلا البعثيين، لا ترقية إلا.. البعثات،الامتيازات ل.. أمسكوا رغيف الخبز بين أيديهم ليبدأوا بالانتشار، ارتفعت أسعار النفط لتتكدس ثروات، تكبر من خلالها أجهزة الجيش، الأمن، المخابرات والاستخبارات على حساب تنمية الانسان والوطن ولتبدأ مطاردة أفراد الأحزاب الأخرى بكل الطرق مخيريهم بين الموت في السجون أو الانضمام إلى خلايا حزب البعث العربي الاشتراكي تحت مسمى الخط الوطني، المدينة تفقد جزءاً من عنادها وكثيراً من الذاكرة بين مراسيم وقوانين. رؤوس تتدحرج وتفسح مكاناً لرؤوس أخرى ويتنازل رئيس الجمهورية للنائب الأول في احتفال تلفزيوني غريب، لشد انتباه الرأي العام بديمقراطية السلطة في الحكم لتبدأ حملات اعتقال ومحاكم هزلية تنتهي بمقابر ودهاليز جديدة تحتفي برفاق الأمس. لم يسلم يوسف منها فقد أكرمه رفاقه بالسجن ليخرج بعد سنوات معلولاً، يسير بصعوبة على عكازين لم يستخدمهما طويلاً ليقبع في منزله دون سلاح. بكيت قرب سريره، كان ينظر إليّ، يرفع يديه إلى السماء كأنه يريد أن يقول إننا لم نتفق على ذلك، انهم يسرقون الحياة ويدمرون كل من لا يقف في خندقهم دون شفقة.
صورة أبي حسين ما زالت معلقة، مجللة بشريط أسود تجمع كثيراً من بيوت العنكبوت خلفها والحائط، أمسح زجاجها وأترك الزمن خلفها يكتب بأدواته ما لم نستطع. يسألني الصغار عنه بعض الأحايين فأقص لهم كل ما أعرفه عن شهامته، رجولته،كبريائه القروي، محبته لكل الناس وكيف أن ثورة مراهقة أنهت حياته بصمت. كانوا يسمعون باهتمام يتلاشى لينزلقوا إلى عالمهم لتبقى الصورة وحيدة إلا من نظرة انكسار لن تفارقني كلما رفعت رأسي اليها.